الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 14، 2024

عودة نسائم الحب إلى البراري : نص مفتوح عبده حقي


ولدت في بيت حيث الموت يتزيى بالورود كالتيجان والحب يهمس بلغة السكاكين. وفي الزوايا كانت الظلال تقف كحراس، تراقب العشاق وهم يسيرون نحو استسلامهم، وكأن السماء تعرف حدودها، لكنها لا تجرؤ على التحدث عن حبيبتي بصوت عالٍ.

يا حبيبتي، تلك النار الغريبة والمقدسة، العميقة التي تتساءل حتى عن يقين الزمن. كيف تزدهر في قلب الموت؟ كيف تجد صوتك في حنجرة مليئة بالعتمة؟

 تهمس له:  إذا كنت تحبني، فامش في تضاريس الضباب. إذا كنت تحبني، فالمس النجوم التي لم يجرؤ أي عاشق على لمسها.

ثم عد: سأمشي معك حتى يستنزفنا الليل. سنمسك بأيدينا ونضحك في فم الأبدية. في الزوايا الظليلة، لا يزال بوسعك أن تسمعهم، يتنفسون إيقاعات لا يفهمها إلا أولئك الذين ماتوا فداء للحب.

ما الحياة إلا دائرة مرسومة بالدم؟ ما الحب إلا صدى الشمس التي تنحدر ألف مرة في نفس الفج، ومع ذلك لا تموت أبدًا؟ لا أخاف النار ولا السقوط. لا أخاف الظلام، لأنك علمتني الرقص فيه. اسمك محفور في الهواء، في الفراغات بين النجوم، وأنا على استعداد للموت مرة أخرى، لألمس حدود محياك في الظلام.

يظهر الموت دائمًا على الشرفة ومعه سلة مليئة بالبرتقال. يعرضها عليّ وكأنها أقمار ونجوم صغيرة، فآخذ واحدة وأقشرها بأصابع لم تتعلم قط كيف تتخلص من الأشياء برفق.

أحبك هكذا، مثل البرتقالة التي أحملها في يدي - مشرقة، لامعة ، من المستحيل تجاهلها. سأحبك عبر الأفق الجريح، عبر اختفاء المساء البطيء في ما لا يمكن تسميته.

هناك طريق نسير عليه، أنت وأنا، والطيور فوقنا تحمل أسرارًا كالقش في مناقيرها. كل همسة بيننا هي لغز، لغز بلا حدود، وما زلنا نحاول حله. ومع ذلك، أمد أصابعي نحو المستحيل.

لا أستطيع أن أعدك إلى الأبد، ولكن أستطيع أن أعدك بهذه اللحظة، هذا الميل من الضوء الذي يسقط على ملعبنا، هذه اللقمة من الهواء التي طعمها مثل المسافة الدقيقة بين ضربات القلب.

عندما أقول أحبك، فأنا في الحقيقة أقول: سأمشي معك عبر كل ممر ظليل. سأتسلق كل سلم غير مرئي يقودنا إلى سقف السماء، وحتى عندما نصل إلى القمة، ولا يوجد شيء سوى الفضاء، سأستمر في الرحلة سيدتي.

الحب ليس غياب الخوف، بل هو اختيار الاستمرار في السير نحو النار، مع العلم أنها قد تحرقنا وقد نتحول معها إلى رماد. والموت يقف في الأفق، ليس كنهاية، بل كتذكير. لا داعي للتسرع. إنه صبور، ينتظر مع سلة الفاكهة المحرمة الخاصة به. نسير جنبًا إلى جنب في الليل. لا أعرف إلى أين نحن ذاهبان، لكنني أعرف كيف أفضل أن أضيع فيك ومعك على أن أجد طريقي وحدي.

في الليلة التي استلقينا فيها معًا، شعرت بنسمة الموت الدافئة الغريبة، وهمهمة ناعمة تحت السطح.

احتضنتك بقوة، وكأن العالم قد ينتهي ويتركنا هناك، جسدين متشابكين في الظلام، غير متأكدين من أين ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر.

همست بشيء ما - لم أستطع فهم الكلمات، لكنني لم أكن بحاجة إلى ذلك. كان الصوت وحده كافياً.

خريطة منقوشة في الهواء، تقودنا إلى مكان لن أجرؤ على تسميته. وشعرت حينها بذلك الجذب، مثل القمر الذي يجذب المد والجزر. وأدركت أننا نقف على حافة شيء هائل، شيء مرعب، وتمسكت به. تمسكت بك.

نحن مجرد زوار هنا، عابران، على أمل ترك بصمة على شيء لا يمكن ترك بصمة عليه.

ولكن في تلك اللحظة، في الصمت الذي امتد بيننا، أدركت ـ حتى ولو لم نستطع البقاء، وحتى ولو نسيت النجوم أسماءنا قريبًا ـ أننا كنا هنا. وكان هذا كافيًا لعمرنا وحبنا .

في المطبخ، يجلس الموت أمامنا، كضيفة لم ندعوها ولكننا لا نستطيع أن نطلب منها المغادرة. يداها مطويتان، هادئة، وكأنها تنتظر شيئًا ما، لكنني لا أستطيع أن أجزم ما هو.

نسكب الشاي، ونحن حريصين على عدم سكبه. نتحدث همسًا، وكأن رفع أصواتنا قد يوقظ الآلهة النائمة.

تمد يدك على الطاولة، وتلامس أصابعك يدي، وأتساءل - هل هذا هو الحب، هذا الاعتراف الهادئ بشيء يتجاوزنا، شيء لا اسم له؟ أم أنه مجرد عبء الوقت، الذي يجذبنا أقرب إلى الحافة؟

لم أكن أجيد الانتظار قط. ولكن ها نحن ، نجلس في صمت كثيف، والهواء مثقل بأشياء لم تُقال.

أتطلع إلى وجهك، باحثًا عن إجابات في الأسارير والمنحنيات، في الطريقة التي تلتقي بها عيناك بعيني ثم تبتعدان. لا مفر من هذا. ولا سبيل إلى الفرار مما هو آت. ولكننا ما زلنا نجلس هنا، وأيدينا تكاد تلامس بعضها البعض، وأفكر ـ ربما هذا كل ما في الأمر. وربما يكون هذا كافياً. لقد أخبرتني ذات مرة

أن الحب يشبه القمر الفضي الذي يسحب المحيط من الداخل إلى الخارج، وأن حب شخص ما يعني السماح له بإعادة ترتيب النجوم بداخلك، حتى لو تركك رأسًا على عقب، حتى لو كان ذلك يعني نسيان اسمك لفترة من الوقت.

وصدقتك لأن صوتك كان أعلى من صراخ العالم دائمًا. لأنه عندما قلت إنك ستظل تحبني حتى تنهار السماء، كنت أستطيع بالفعل رؤية الشقوق تتشكل، ويمكنني بالفعل تذوق غبار النجوم المتساقطة.

ورقصنا في دوائر حول بعضنا البعض، كل منا يحاول اكتشاف كيفية التخلي عن كل شيء دون أن نخسر كل ما كنا عليه. لكن الحقيقة هي أننا لم ننفصل أبدًا منذ البداية. كنا دائمًا جسدًا واحدًا، وزفرة واحدًة، وصلاة واحدة تهمس في الظلام.

أذكر الطريقة التي نظرت بها إليّ تلك الليلة، كانت عيناك مليئتين بالأسئلة التي لم يعرف أي منا الإجابة عليها. ومع ذلك، واصلنا التحرك، واستمررنا في الدوران في تلك الرقصة التي لا تنتهي من الحب والخوف والأمل والخسارة، حتى لم نستطع أن نحدد أين ينتهي أحدهما وأين يبدأ الآخر. ولكن حتى الآن،

حتى بعد أن استقر الغبار ووجدت النجوم أماكنها مرة أخرى، لا أزال أشعر بك هناك، مباشرة تحت السطح، تنتظر أن تسحبني مرة أخرى إلى شهوة المد والجزر.

الحب هو صوت الكون وهو يرتجف، والتوقف القصير قبل أن تلتقط النجوم أنفاسها. إنه اللحظة التي تمد فيها يدك إلى شخص ما، ولكنك لا تجد سوى الهواء، والفراغ بين أصابعك واسع للغاية وفارغ للغاية.

لقد أحببت بهذه الطريقة -مثل قطة تطارد شعاعًا من ضوء الشمس منسكب من الكوة ، مثل سبّاح يغوص في محيط من المرايا، لا يعرف أي طريق هو للأعلى، غير مهتم، طالما أستطيع رؤية انعكاسك في مكان ما، في أي مكان.

لقد بنينا بيتاً من الصمت، وزودناه بساعات مكسورة وبوصلات محطمة. وفي الداخل، كانت الجدران مطلية بكل الكلمات التي لم نقلها قط، وكل الأسرار التي دفناها تحت ألواح الأرضية.

هناك باب، لكننا لم نفتحه أبداً، خوفاً مما قد ينتظرنا على الجانب الآخر. كنت أعتقد أن الحب خط مستقيم، طريق يؤدي من النقطة حاء إلى النقطة باء. ولكن الآن أعلم أنه أشبه بدوامة، تدور حول نفسها مرارًا وتكرارًا، دون أن تصل إلى المركز أبدًا، أو تجد نهاية أبدًا.

وربما لا بأس بذلك. ربما الحب ليس شيئًا يجب فهمه، بل هو شيء يجب الشعور به، والعيش به ومن أجله مثل الريح الراحل على وجهك، مثل قوة المد والجزر تحت قدميك.

ربما يكفي أن تستمر في السير، حتى لو لم تكن تعرف إلى أين تتجه. حتى لو لم تجد الإجابات أبدًا.

هناك إيقاع للطريقة التي ننهار بها، مثل الأمواج التي تتحطم على الشاطئ، كل منها أضعف قليلاً من الأخرى، ولكن مع ذلك، نستمر في العودة، ما زلنا نستمر في الانهيار.

لقد تعلمت أن أحب المسافات بيننا، واللحظات التي لا نكون فيها مكتملين تمامًا، ولكننا لسنا مكسورين تمامًا أيضًا. هناك شيء مقدس في الطريقة التي نتمسك بها، حتى عندما يحاول العالم أن يفرقنا.

الحب لغة لم أفهمها بالكامل قط، قصيدة لم أستطع إنهاءها قط. لكن معك، أشعر وكأن الكلمات بدأت تكتسب معنى، وكأن الفراغات بين السطور بدأت تمتلئ أخيرًا.

لا أعلم ما الذي سيأتي بعد ذلك، ولكنني أعلم هذا - سأستمر في حبك، حتى عندما تنسى النجوم كيف تلمع، حتى عندما يفقد القمر بريقه الفضي.

في الهدوء، نحن جميعًا مجرد أصداء، نسعى إلى شيء لا يمكن لمسه. فالحب، مثل الريح، ينزلق من بين أصابعنا، ونبقى واقفين في الظلام، نتساءل عما سيحدث بعد فنائه .

0 التعليقات: