الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 01، 2025

قراءة في كتاب "الآليات: الإعلام الجديد والخيال الشرعي"، للباحث ماثيو كيرشنباوم : ترجمة عبده حقي


في كتابه "Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination"، يقدم الباحث ماثيو كيرشنباوم مشروعًا نقديًا رائدًا يعيد الاعتبار للبنية المادية للنصوص الرقمية. فبدلاً من الاكتفاء بما يظهر على الشاشة، ينقب كيرشنباوم في الأعماق التقنية التي تُنتج النصوص، كاشفًا عما يسميه بـ"المادية الجنائية"، أي العلاقة الحسية والتاريخية التي تربط النص بوسائط تخزينه.

يفرق كيرشنباوم منذ البداية بين نوعين من المادية: المادية الشكلية، وهي ما يُرى على الشاشة ويُدرك برمجيًا، والمادية الجنائية، وهي آثار الكتابة الرقمية المحفوظة في أقراص التخزين. في هذا الطرح، يصبح النص الرقمي ليس فقط بنية افتراضية، بل أثرًا مادّيًا قابلاً للتحقيق والفحص يشبه الوثيقة الجنائية. من هنا، يقترح الكاتب تحولًا في دراسة الأدب الرقمي نحو "طبقة التخزين" التي تُهمل غالبًا لصالح الشاشة.

الجزء التطبيقي من الكتاب يعتمد على دراسات حالة دقيقة، تبدأ بقصة

 "Mystery House"، وهي لعبة مغامرة على الحاسوب Apple II. من خلال فحص صورة القرص، يكتشف كيرشنباوم بقايا بيانات من استخدام سابق، بما يشبه الحفر الأثري في قطاع مهجور من ذاكرة رقمية. تظهر هذه الحالة كيف يمكن للنص الرقمي أن يحتفظ بطبقات متعددة من الزمن والمعنى.

ثم ينتقل الكاتب إلى العمل المعروف "Afternoon: A Story" لمايكل جويس، ويُبرز من خلاله أهمية تتبع نسخ النص المختلفة وتوثيق التغيرات. فالنصوص الرقمية ليست جامدة بل تتطور عبر النسخ والتعديلات، وكل نسخة تحمل طابعًا تاريخيًا فريدًا. في هذا السياق، تتحول الدراسة النقدية إلى نوع من التأريخ الدقيق للنصوص، يُشبه دراسة المخطوطات، ولكن في سياق رقمي.

الدراسة الثالثة تخص العمل الفني التفاعلي "Agrippa" للكاتب ويليام غيبسون، وهو نص يُفترض أن يتلف ذاتيًا بعد قراءته الأولى. يدرس كيرشنباوم ليس فقط النص، بل ما دار حوله من محاولات قرصنة، وتوثيق رقمي، ومراسلات إلكترونية. يتعامل مع "أغريبا" كمثال على كيف يتجاوز النص الرقمي حدوده التقنية ليصبح ظاهرة ثقافية، وهنا يتضح البعد التخييلي لما يسميه "الخيال الجنائي".

الكتاب في جوهره هو تحدٍ للمفاهيم السائدة حول الطبيعة الزائلة للنصوص الرقمية. يكشف كيرشنباوم أن البيانات لا تُمحى بسهولة، وأن لكل تفاعل مع جهاز تخزين أثرًا مادّيًا قابلاً للاسترجاع. بهذا، يدعو إلى تجاوز "سردية التقادم" التي ترى في الوسائط الرقمية مجرد أدوات مؤقتة سريعة الزوال.

اللغة التي يستخدمها كيرشنباوم تمزج بين التقنية والشعر. حين يصف المسافة النانوية بين رأس القراءة وقرص التخزين، يشبهها بقيادة طائرة ضخمة على بعد إنشات من الأرض. هذه الاستعارات تمنح الكتاب طابعًا إنسانيًا رغم غوصه في تفاصيل تقنية دقيقة.

على المستوى النقدي، ينجح كيرشنباوم في فتح أفق جديد لدراسة الأدب الرقمي، لكنه في المقابل يُركّز أساسًا على نصوص تعود إلى الثمانينات والتسعينات، مما يثير تساؤلات حول قابلية منهجه للتطبيق على وسائط أحدث مثل التطبيقات السحابية ومنصات التواصل الاجتماعي. كما يمكن التساؤل إن كانت بعض هذه النصوص تملك قيمة أدبية قائمة بذاتها، أم أن أهميتها تنبع فقط من غرابتها التقنية.

رغم ذلك، يُعتبر هذا العمل من أبرز المساهمات في حقل الدراسات الرقمية، حيث منح للباحثين أدوات تحليلية تتيح لهم تفكيك البنية المادية للنصوص، وفهم علاقتها بالزمن، والوسيط، والمستخدم. إنه كتاب يُعيدنا إلى جوهر السؤال: ما هو النص؟ ولكن في عصر تتداخل فيه الرموز مع المغناطيس، والتاريخ مع الكهرباء.

قائمة المراجع:

Kirschenbaum, Matthew G. Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination. MIT Press, 2008.

Hyperrhiz: New Media Cultures. Issue 07, 2010.

Digital Humanities Quarterly, Issue 3.3, 2009.

Wired Magazine, “Dead Media Beat,” 2009.

MIT Press Website (Official book page)

0 التعليقات: