في مشهد غير مسبوق في التاريخ السياسي الحديث، طُردت المناضلة الحقوقية الجزائرية ناصرَة دوتور من مطار الجزائر العاصمة، وهي التي تحمل الجنسية الجزائرية وتملك جواز سفر جزائري، دون أي مذكرة قضائية أو تبرير قانوني، فقط لأنها... مواطنة ناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان. في نهاية يوليوز 2025، عادت الدولة الجزائرية لتُعيد إنتاج عبث سياسي وقانوني، لا يمكن وصفه إلا بأنه سابقة خطيرة في انتهاك الدستور والقيم الجمهورية.
ناصرَة دوتور، البالغة
من العمر 70 سنة، شخصية معروفة لدى الرأي العام الدولي والجزائري، ترأست "جمعية
عائلات المفقودين في الجزائر" منذ أواخر التسعينيات، بعد اختفاء ابنها أمين ضمن
آلاف الشباب الذين اختفوا قسريًا خلال "العشرية السوداء". لا تزال قضية المفقودين
من أكثر الملفات حساسية وإحراجًا للنظام الجزائري، في ظل غياب أي تحقيق رسمي أو محاسبة
لمرتكبي الانتهاكات.
دوتور، المولودة في
مرسيليا عام 1955، عاشت طفولتها وشبابها في الجزائر بعد أن عادت أسرتها إلى الوطن عقب
الاستقلال، وتحملت كغيرها من الأمهات الجزائريات فصولًا من المعاناة بعد أن اختفى ابنها
دون أثر على يد قوات الأمن. في عام 1998، أسست "جمعية عائلات المفقودين"
في فرنسا، وبالرغم من أن الجمعية لم تنل اعتمادًا رسميًا في الجزائر، إلا أن السلطات
كانت تتسامح معها في السابق، تقديرًا للطابع الإنساني لمطالبها.
لكن يبدو أن الجزائر
اليوم لم تعد تطيق مجرد الحديث عن "الحقوق" و"المفقودين" و"العدالة".
فناصرَة التي اعتادت التنقل بين فرنسا والجزائر، فوجئت يوم 30 يوليو 2025، باحتجازها
ثلاث ساعات من قبل شرطة الحدود في مطار الجزائر الدولي، قبل أن يتم ترحيلها قسرًا إلى
باريس على متن رحلة للخطوط الجوية الفرنسية دون توجيه أي تهمة أو إخضاعها لاستجواب
قانوني.
في اتصال صحفي، أكدت
دوتور أن ما حدث معها لا يمكن تفسيره إلا بكونه قرارًا سياسيًا بامتياز، يهدف إلى إسكات
أي صوت ينتقد سجل الجزائر في حقوق الإنسان، خاصة حين يتعلق الأمر بملف "المختفين"
الذي بقي لعقود في طيّ النسيان والتجاهل الرسمي.
الفضيحة لا تقف فقط
عند خرق الأعراف السياسية، بل تمسّ نصًا صريحًا في المادة 49 من الدستور الجزائري،
الذي يضمن لكل مواطن الحق في التنقل والإقامة داخل الوطن والدخول إليه والخروج منه
بحرية، ولا يمكن تقييد هذا الحق إلا بموجب قرار قضائي معلل ولأجل محدد.
ما يزيد من خطورة هذا
الإجراء هو كونه الثاني من نوعه خلال عام واحد، إذ سبق للسلطات الجزائرية أن قامت بطرد
الصحفي المعروف فريد عليلات في أبريل 2024، في خطوة أثارت آنذاك موجة من الانتقادات
الحقوقية والدبلوماسية. إلا أن الفرق الجوهري أن عليلات خضع حينها لاستجواب رسمي ووقع
محضرًا، أما ناصرَة دوتور، فقد طُردت بلا محضر، بلا تهمة، بلا قاضٍ، فقط بقرار أمني
غامض.
ورغم أن دوتور تحمل
أيضًا الجنسية الفرنسية، فإن هذا لا يُسقط عنها حقوقها كمواطنة جزائرية. بل إن استخدامها
لجواز سفرها الجزائري للدخول يُثبت نيتها في ممارسة حقها المشروع كمواطنة في زيارة
بلدها. لكن السلطات تعاملت معها كـ"عنصر غير مرغوب فيه"، بل كشخص أجنبي يشكل
"خطرًا" على النظام، دون أي مبرر قانوني.
الرسالة السياسية من
هذا التصرف لا تخفى على أحد: الجزائر الرسمية لم تعد تتسامح مع أي نشاط حقوقي، حتى
وإن كان إنسانيًا صرفًا. المنظمات غير الحكومية، المدافعون عن حقوق الإنسان، الصحفيون،
وحتى الأمهات الثكالى... لم يعودوا مرحبًا بهم.
لقد تحولت الجزائر
إلى ما يشبه "نادٍ مغلق" تتحكم السلطات في أبوابه وتقرر من يدخل ومن يُطرد،
حتى ولو كان مواطنًا يحمل هوية الدولة وجواز سفرها. إنه تحوّل خطير يشي بانزلاق البلاد
إلى حالة من "الخصوصية السلطوية" التي تضع القوانين والدساتير جانبًا أمام
اعتبارات أمنية لا شفافية فيها ولا ضوابط قضائية.
ما حدث مع ناصرَة دوتور
ليس فقط طردًا لامرأة مسنة من مطار بلادها، بل هو طرد رمزي لذاكرة جماعية جريحة، ولسؤال
مؤجل منذ أكثر من ربع قرن: أين هم آلاف الجزائريين الذين اختفوا في التسعينيات؟ ومن
يملك الحق في إسكات أمهاتهم؟ وهل تتحمل الجزائر حقًا صدمة أن تطرد نساءً شرفن الذاكرة
بدل أن تحاكم الجلاد؟
إنها فوضى دستورية،
وبجاحة أمنية، وباب مفتوح لانتقادات دولية لا محالة. والأخطر من كل ذلك: إنها صفعة
في وجه ما تبقى من ثقة الجزائريين في دولتهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق