الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 01، 2025

المغرب والولايات المتحدة: شراكة راسخة في مواجهة براغماتية العلاقات الجزائرية: عبده حقي


في خضم الحديث عن التقارب الجزائري الأمريكي الذي أثارته زيارة مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للجزائر، تبرز الحقيقة الأعمق: إن العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المغربية ليست مجرد تبادل مصالح آنية، بل هي علاقة تاريخية واستراتيجية تعود جذورها إلى أزيد من قرنين، حين كان المغرب أول دولة تعترف باستقلال الولايات المتحدة سنة 1777، لتُبنى بعدها أقدم معاهدة صداقة أمريكية ما تزال سارية حتى اليوم، هي "معاهدة السلام والصداقة" الموقعة عام 1786.

في المقابل، يمكن قراءة الحراك الدبلوماسي بين الجزائر وواشنطن، بما فيه زيارة مستشار ترامب مسعد بولس وتصريحاته الودية، في إطار براغماتية ظرفية لا تتجاوز إطار إعادة التموقع الأمريكي في منطقة الساحل، بعد أن فرضت المتغيرات الإقليمية تحديات جديدة، مثل تصاعد الإرهاب، والنفوذ الروسي المتجذر في الجزائر، وتنامي النفوذ الصيني في إفريقيا.

تقول الجزائر إنها تسعى لتنويع شركائها الاقتصاديين والاستراتيجيين، لكن هذا المسعى يصطدم بحقائق الجغرافيا السياسية والتحالفات التاريخية. فواشنطن لم تنسَ أن الجزائر ظلت لعقود مرتبطة عضوياً بروسيا، سواء من حيث التسلح أو العقيدة السياسية، وهو ما عبّر عنه مرشح ترامب لقيادة "أفريكوم"، الجنرال داغفين أندرسون، حين دعا بلاده إلى إعادة توجيه الجزائر بعيداً عن اعتمادها على موسكو، عبر شراكة جديدة مع واشنطن.

لكن هل هذا المسار واعد فعلاً؟ أم هو محكوم بحدود ما تسمح به عقيدة "اللا انحياز" الجزائرية؟ الواقع أن الجزائر تتعامل مع الولايات المتحدة كفرصة آنية، وليست كحليف استراتيجي، وهو ما يفسر تمسكها الخطابي بعدم الارتهان لأي محور، بينما تحافظ عملياً على تحالفها التقليدي مع روسيا، سواء في مجال الطاقة أو التسلح.

في المقابل، تعكس العلاقات المغربية الأمريكية نضجاً وتراكماً نوعياً، يترجم إلى دعم ثابت ومواقف استراتيجية متقاربة. ولعل قرار الرئيس ترامب في ديسمبر 2020 الاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، بما فيها الصحراء، خير تجسيد لذلك. لم يكن ذلك القرار لحظة عابرة، بل ثمرة لتحالف طويل الأمد، وتعهدات أمنية واستخباراتية ودبلوماسية، يُنظر إليها في واشنطن باعتبار المغرب "حليفاً رئيسياً من خارج الناتو"

لقد اتخذت الولايات المتحدة هذا الموقف بناءً على قناعة بأن المغرب يمثل واحة استقرار في منطقة تعصف بها التوترات، كما يعرض حلاً واقعياً وعادلاً لقضية الصحراء، من خلال مقترح الحكم الذاتي الموسع الذي قدمه سنة 2007، والذي يحظى بدعم قوى من الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا ومعظم الدول الإفريقية والعربية.

أما زيارة مستشار ترامب إلى الجزائر، وما تلاها من إطلاق مشروع "بلدنا" الزراعي الذي يضم شركاء من قطر والجزائر بقيمة 3.5 مليارات دولار، فهي تحمل دلالة اقتصادية، لكنها لا تُبنى على أسس استراتيجية عميقة، وإنما تستجيب لضرورات ظرفية تتعلق باهتمام أمريكي بالموارد الجزائرية مثل "الأتربة النادرة" المستخدمة في الصناعات التكنولوجية، أو رغبة في استعادة النفوذ في الساحل بعد انسحاب القوات الفرنسية.

ورغم محاولة الجزائر التذكير بدور واشنطن في دعمها إبان الثورة التحريرية، فإن هذا البعد التاريخي ظل معزولاً عن البناء الفعلي للعلاقات الثنائية، على عكس ما جرى مع المغرب الذي نسج مع الولايات المتحدة شراكات متراكمة في مجالات الأمن، ومحاربة الإرهاب، والتكوين العسكري، والتعليم، والطاقة المتجددة، والتحول الرقمي، والاستثمارات متعددة الأطراف.

كما أن المغرب كان من بين البلدان الأولى في إفريقيا التي استضافت مناورات "الأسد الإفريقي" التي تقودها "أفريكوم" سنوياً، وتعتبر اليوم من أكبر المناورات العسكرية في القارة، مما يعكس الثقة المتبادلة بين المؤسستين العسكريتين المغربية والأمريكية.

وحتى من الناحية الاقتصادية، فإن الرباط تميزت بعلاقات تجارية أكثر انفتاحاً مع الولايات المتحدة، تجسدت باتفاقية التبادل الحر الموقعة سنة 2004، وهي الاتفاقية الوحيدة من نوعها التي تجمع واشنطن ببلد إفريقي، في حين ظلت العلاقات الاقتصادية الأمريكية الجزائرية تدور في فلك النفط والغاز، مع تراجع حجم المبادلات التجارية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.

لقد حاولت الجزائر مؤخراً تقديم نفسها كبديل دبلوماسي قابل للتموقع بين روسيا وأمريكا، لكن هذه المناورة لا تحجب الحقيقة الثابتة: أن المغرب هو الشريك الطبيعي والاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة المغاربية، ليس فقط بفعل الإرث التاريخي، ولكن بسبب الانسجام السياسي والوضوح في الرؤية والموقع الجيوسياسي الحيوي.

فبينما تؤكد الجزائر في خطابها على "عدم الانحياز"، يمارس المغرب انحيازه الذكي لصالح الاستقرار، والانفتاح، والتعاون الجاد مع شركاءه الدوليين، واضعاً في اعتباره مصلحة إفريقيا والمنطقة المغاربية ككل، بعيداً عن منطق المعسكرات، ولكن أيضاً بعيداً عن الشعارات.

لهذا، فإن أي محاولة لتقديم العلاقات الجزائرية الأمريكية كبديل للعلاقات المغربية الأمريكية، لن تكون سوى وهماً دبلوماسياً، لأن التحالفات لا تُبنى على الزيارات، بل على الثقة، والوضوح، وذاكرة التحالف. وفي هذه المعادلة، يظل المغرب هو الطرف الذي يفهم واشنطن، وتفهمه.

0 التعليقات: