الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 11، 2024

"نظراتهم التي أحيى بها" نص مفتوح : عبده حقي


في كون حيث فتنة وجودي تقاس بنظرات الآخرين. كنت أجول في خرائط الأيام مثل ظل، غير مشدود بالأرض، بل بالعيون التي تلاحقني، والهمسات التي تنقش اسمي في صفحة الهواء. تعلمت أن الوجود ليس مجرد وجود صرف، بل هو أن يراني الآخرون، ويحفروا اسمي في وعي من هم حولي. لم أكن أقذف فقاعات أنفاسي لأعيش، بل من أجل انعكاسات نفسي التي رأيتها في قزحية عيون الغرباء، وفي النظرات العابرة لمعارفي، وفي تحديق العشاق.

في الصباح، أستيقظ على ضوء الشمس الذي يتسلل عبر ستائر غرفتي، فيذكرني ضوءه بأن العالم ما زال هناك بخير، عالم يترقب رؤيتي، ليؤكد لي أنني لم أختفِ في ليلة الأمس.

المرآة تحتجز وجودي رهينة، سطحها يعكس توقعات مما يجب أن أكون عليه. كنت أقف أمامها، وأتتبع أسارير وجهي، والتواء شفتي، وقوس حاجبي، وأتساءل عما إذا كنت كافيًا ومكتفيا بذاتي ، وما إذا كانت هذه النسخة مني ستُعتبر جديرة بالتقدير اليوم.

الشوارع مسرحً، وأنا الممثل ربما الفاشل ، كل حركة من حركاتي مصممة من قبل مخرج متواري تخيلت أنه يراقب كل خطواتي. أسير بعزم ، مع العلم أن التراجع إلى الخلف يعني التوقف عن الوجود. المدينة تضج بالحياة، مع هدير السيارات المتواصل ، وثرثرة العابرين، وعويل صفارات المعامل البعيدة، كل ذلك يكون صخبًا يطغى على الصمت بداخلي. وأنا جزءً من هذا النسيج، رقعة في فسيفساء مليون حياة أخرى، ومع ذلك أشعر وكأنني أتفكك، وأتقطع عند الحواف، وأختفي ليفة تلو الأخرى.

أذكر ذات مساء كانت السماء رمادية ، وكان الهواء مثقلاً بتهديدات وابل من الأمطار. جلست في مقهى، وكتابي مفتوح أمامي على الطاولة، رغم أن الكلمات كانت ضبابية غير مفهومة. لم أكن أقرأ؛ كنت أنتظر. أنتظر شخصاً ما، أي شخص، يلاحظني، يشاهدني، ينتشلني من الفراغ الذي كان يتثاءب بداخلي. كان المقهى مزدحماً، وكانت قعقعة الأكواب وهمهمة المحادثات هديراً باهتاً في أذني، لكنني كنت وحدي هناك ، جزيرة في بحر من الوجوه التي مرت فوقي دون توقف، دون التعرف علي.

وبينما كنت أحتسي قهوتي، لمحت انعكاسي في النافذة في جانبي، صورة شبحية تطفو على الشارع خلف النافذة. وفي لحظة، تخيلت نفسي ذلك الشبح، خيطًا من الدخان، ذكرى لا تدوم إلا إلى أن يهتم أحد بتذكرها. وشعرت بأنني أنزلق، وتتلاشى حواف جسدي، ويذوب شكلي في الزجاج. ولكن بعد ذلك، ألقى رجل على الطاولة المجاورة نظرة خاطفة نحوي، والتقت عيناه بعيني للحظات وجيزة، ثم عدت إلى الوجود. لقد عدت إلى طبيعتي، صلبة، مقيدة بالعالم من خلال ذلك الاتصال العابر.

ولكن مثل هذه الجسور كانت عابرة، تتلاشى بسرعة بمجرد ظهورها. نظر الرجل بعيدًا، وعاد إلى جريدته، وتركني تائهًا مرة أخرى، ولم يعد إحساسي بالذات مرتبطًا بأي شيء سوى صدى تلك النظرة الخافتة. لقد تعلمت أن أعيش في هذه اللحظات، وأن أتمسك بها كما قد يمسك المرء بطوق النجاة، مدركًا أنه بدونها، سأضيع، ويبتلعني الفراغ الذي يهدد باستمرار بمضغي.

كانت هناك أيام شعرت فيها بأنني غير مرئي، حيث بدا لي أن العالم يمر دون أن يلقي عليّ ولو نظرة واحدة. كنت أجلس في الحدائق، على مقاعد ملساء تركها عدد لا يحصى من الآخرين الذين جاءوا ورحلوا قبلي، وأراقب الناس وهم ينعمون بيومياتهم، غير مدركين لوجودي. كنت أتخيل كيف سيكون شعوري إذا اختفيت تمامًا، وتلاشيت في الخلفية حتى لا أعود أكثر من همسة ومن ذكرى، شبح يطارد أطراف حياة الآخرين.

ولكن كانت هناك أيضًا لحظات من الوضوح، ومضات قصيرة من الفهم اخترقت ضباب وجودي. كنت ألمح نفسي في انعكاس، أو أشعر بلمسة يد شخص ما على يدي، وفي تلك اللحظات، كنت أعلم أنني حقا شخص حقيقي، وأنني موجود ليس فقط في عيون الآخرين، بل وفي جوهر وجودي. كانت هذه اللحظات نادرة، لكنها كانت ثمينة، وكنت متمسكًا بها، مدركًا أنها الشيء الوحيد الذي يمنعني من الانزلاق بعيدًا عني تمامًا.

في ساعات الليل الهادئة، عندما يكون العالم ساكنًا ويلفني الظلام في كفنه الأسود ، كنت أستلقي وأتطلع إلى السقف، وأتساءل عما إذا كنت سأظل موجودًا إذا لم يكن هناك أحد ليراني. إذا نسيني العالم، وإذا اختفت العيون التي كانت تحتضنني ذات يوم، فهل سأختفي معهم أيضًا؟ كانت الفكرة ترعبني، خوف ينخر في حواف وعيي، يهمس بأنني بدون الآخرين، لا شيء، مجرد خيال، ظل يتلاشى في ضوء النهار.

ولكن مع مرور السنين، بدأت أدرك أن وجودي لم يكن يعتمد فقط على إدراك الآخرين لي. فقد كنت موجوداً في الفراغات بين لحظات الإدراك تلك، وفي العزلة الهادئة التي تسكن أفكاري، وفي الأنفاس التي تملأ رئتي والدم الذي يجري في عروقي. لقد كنت أكثر من مجموع النظرات التي استحوذت علي، وأكثر من التأملات التي أسرتني. لقد كنت كائناً في حد ذاته، كاملاً ومتكاملاً، سواء اختار العالم أن يراني أم لا.

وهكذا، تعلمت أن أكون موجودًا ليس من أجل عيون الآخرين، بل من أجل نفسي. تعلمت أن أجد العزاء في وجودي، وأن أكتفي بمعرفة أنني هنا، في هذا العالم، بغض النظر عما إذا كان أي شخص آخر قد لاحظ ذلك أم لا. تعلمت أن أرى نفسي ليس فقط من خلال مجهر الآخرين، بل من خلال عيني، وفي القيام بذلك، وجدت شعورًا بالهناءة ، وقبولًا هادئًا لكوني كافيا ، كافيا كما أنا.

 

 

0 التعليقات: