تعلمت شكل الأصداء، وفككت مقاطعها كطفل يكسر الخبزة في مطابخ الكون. كل حرف هو سلم، لكن قمته تذوب في بطن الضباب. لا يوجد صعود، فقط تجوال، فقط طفو.
يرن هاتف، لكنه طائر. لا، ربما جرس، أو عجلة تدور في مدينة قديمة لم يعد أحد يعيش فيها. أمسكت به، فانحل مثل خيط، ودار عائداً إلى البحر المظلم. لا توجد كلمات لوصف هذا المكان، فقط رموز مرسومة في الغبار، تمحوها الرياح.
مزقت الكلمات -
شظايا صغيرة من القمر سقطت على حضني. تتناثر مثل الزجاج المحطم، تعكس ذكريات أماكن
لم أرها من قبل. ومع ذلك، هناك كلمة واحدة تحت كل ذلك، وكأنها مختبئة تحت ثقل
النجوم: الوطن. تتسرب من بين أصابعي مثل الماء، من المستحيل الإمساك بها.
تدور البوصلة في
صدري بلا اتجاه. لكن السماء تهمس لي بألسنة لا أستطيع التحدث بها. ربما تعرف
النجوم شيئًا لا أعرفه. أتبعها، لا أعرف إلى أين أذهب، لكنني أعلم أنه لابد أن
يكون في مكان ما.
في ظلال أشجار
الزيتون تروي الحجارة حكاياتها. أمشي بينها حافي القدمين، مستمعاً إلى همهمة
الأغاني القديمة المدفونة في أعماق الأرض. الهواء مذاقه مالح حزين، والريح تحمل
همسات البيوت المنسية، والأبواب التي لم تُفتح أبداً والنوافذ التي لم تطل على شيء
سوى على نفسها.
تغرب الشمس في
الأفق، مثل شفتي عاشق لم يذق طعم القبلات قط. كل غروب شمس، جرح. كل حجر، قلب
متشقق. ألتقط حجرًا وأحتضنه في راحة يدي - إنه ناعم وثقيل ومليء بالكلمات الصموتة.
كلمات تفككت، وتكسرت مثل العظام الهشة. ومع ذلك، يظل وزنها في يدي، وفي صدري.
لقد فككت كل
شيء، حتى الزمن. والآن لم يعد هناك سوى الحجارة التي تتكلم، في همسات خافتة تخدش
السماء. وفي مكان ما وراء ذلك، في المسافة البعيدة، يئن البحر. وهو أيضًا يعرف عبء
التذكر. أضغط الحجر على أذني، منصتًا للكلمة التي أفلتت مني، تلك التي تظل باقية
خلف حافة الفهم : الوطن.
يقول لي الحجر:
أنت موجود بالفعل، ولكنك نسيت كيف تراني.
يمتد الطريق
أمامي، بلا نهاية وبلا شكل، وينثني مثل ثعبان يتلوى في الغبار. إنه طريق مشيته من
قبل، لكن ليس له أفق، فقط نقطة تلاشي حيث تنكشف الذاكرة في السماء. الأشجار هنا
ترتدي جذورها مثل التيجان، وأوراقها مرايا، وأغصانها تتمسك بالريح لكنها لا تجد
شيئًا.
لقد فككت
الأشجار أيضًا، وحطمتها إلى أصغر أجزائها: أوراق، وأغصان، وجذور، وظلال. أسير بين
القطع مثل شبح، أتتبع المسارات بينها. الأرض تحت قدمي ناعمة ومرنة. أغوص عميقا مع
كل خطوة، لكنني لا أتوقف. لا يوجد توقف. فقط أتحرك للأمام، إلى الأمام بلا نهاية.
تغرب الشمس
وتشرق في نفس الوقت، وينطوي الوقت على نفسه مثل الورق. أتحدث، لكن الكلمات تتفتت
في فمي، ويتراكم الغبار على لساني. أحاول الوصول إلى الكلمة التي أبحث عنها، لكنها
تتلاشى، شبحًا في الضباب. البيت. الخيمة دائمًا بعيدًا عن متناول اليد، دائمًا خلف
منعطف الطريق.
الطريق لا نهاية
له، لكنه لا يؤدي إلى أي مكان. ومع ذلك، أسير، لأنه لا يوجد طريق آخر.
لقد مشيت عبر
الأحلام، وقد ابتلعتني بالكامل. تتلوى الشوارع هنا مثل شرائط في الهواء، وتنطوي
على نفسها، ومن المستحيل متابعتها. أطارد ظلالًا تومض بعيدًا عن الأنظار، همسات من
بيت لم يعد موجودًا، إن كان موجودًا على الإطلاق. تتنفس الجدران هنا، وتنبض الأرض
تحت قدمي. لا شيء ثابت، لا شيء يصمد.
تدق الساعة، لكن
عقاربها تتحرك إلى الخلف. الوقت هنا مجرد وهم، مرآة تعكس نفسها. أسير عبر ممرات ذهني،
أفكك الأفكار فور ورودها، وأحطمها قطعة قطعة حتى لا يتبقى شيء سوى الصمت. حتى
الصمت ينهار.
أعثر على بابً،
لكنه يؤدي إلى باب آخر، وآخر، حتى أضيع في متاهة من صنع يدي. أفتح فمي لأتحدث، لكن
الكلمات تخرج خاطئة، ملتوية، غريبة. الكلمة التي أبحث عنها مدفونة عميقًا، أعمق
مما يمكنني الوصول إليه.
البيت. إنه حلم
كنت أحلم به ذات يوم، لكنه الآن يتلاشى، ويذوب مثل الضباب في ضوء الصباح. لقد ضاع في
المتاهة، ولا يوجد مخرج.
لقد اختفت
الجدران، وبقيت واقفًا في العراء، محاطًا بالهواء فقط. السماء فوقي مليئة بالغيوم
التي تنبض وتتنفس مثل الرئتين. أقوم بتفكيك الهواء بيدي، وأمزقه خصلة خصلة، باحثًا
عن الكلمة التي أفلتت مني. لكنها تفلت من بين أصابعي، غير ملموسة، وغير قابلة
للفهم.
أسير إلى
الأمام، لكن الأرض تحت قدمي تمور كالرمال. لا توجد أرض صلبة، ولا مكان للوقوف، فقط
مساحة لا نهاية لها من الفضاء. أقوم بتفكيك المساحة قطعة قطعة، لكنها تنمو وتكبر
أكثر فأكثر مع كل جزء أزيله.
لا جدران هنا
ولا حدود، فقط اتساع كل شيء ولا شيء. أنا تائه في هذا المكان، منجرفً بلا اتجاه،
بلا هدف. الكلمة التي أبحث عنها موجودة في مكان ما هنا، مختبئة في الفراغات وبين
الفراغات، لكنني لا أستطيع العثور عليها.
الوطن هو مفهوم،
فكرة، لكنه ليس حقيقة. ليس هنا، وليس الآن. ربما لم يكن كذلك قط.
الصمت هنا ثقيل،
سميك كالحجر. يضغط عليّ ويخنقني، لكنني لا أتحرك. أنا ساكن، ساكن مثل الحجارة التي
تصطف على جانبي الطريق أمامي. أحطم الصمت، وأحطمه قطعة قطعة، لكنه يزداد ثقلاً
وقهراً مع كل جزء أزيله.
أسير بين
الحجارة، وأتتبع أشكالها بأصابعي. إنها باردة، صلبة، غير قابلة للانحناء. أضغط
بأذني عليها، منصتًا للكلمة التي أفلتت مني، لكن كل ما أسمعه هو صوت دقات قلبي،
بطيئة وثابتة، مثل دقات الساعة. يمر الوقت، لكنه لا معنى له هنا.
أفكك الزمن
وأقسمه إلى لحظات، وثوانٍ، وأنفاس. لكن الصمت يظل ثابتًا، دون تغيير أو تحريك. أمد
يدي إلى الكلمة التي أبحث عنها، لكنها مدفونة عميقًا، متخفية تحت ثقل الحجارة، تحت
ثقل الصمت.
البيت هو همسة،
ظل، ذكرى لمكان لم يعد موجودًا، أو ربما لم يكن موجودًا أبدًا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق