الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 10، 2024

"أقــواس المنفى" نص مفتوح : عبده حقي


تغلق الحقيبة. تسقط دمعة واحدة، ولكن ليس من عينك - لا، من فم ساعة منسية في العلية، عقاربها ترتجف. ستترك كل شيء، تهمس في همسات الطيور، كل ما كنت تحمله، كل ما عرف اسمك. تنحني الشوارع مثل الأنهار، زلقة وسرية، ويتعثر ضوء المصباح وكأنه غير متأكد مما إذا كان سيضيء أم سيتلاشى. تمر عبر الباب الذي لا يؤدي إلى أي مكان، ومع ذلك في كل مكان.

وردة، إبرة، ظل، هذه هي الأشياء الوحيدة التي تحملها في حقيبتك. خلفك، صدى الأحذية التي تسير في الاتجاه الخطأ. وسهم المنفى؛ يغني في عظامك، رقيقا وثقيلا مثل وزن ألف وداع غير منطوق. لقد نسيت الشمس نفسها بالفعل أين تشرق. أنت شبح مكان لم يكن موجودًا أبدًا، يطفو في شفق الذكريات التي تتكشف أمامك.

إنه جرح، رحيل. ليس غيابًا، بل جرح. قد كنت تعتقد أن السماء ستحتضنك، وستضمك مثل رضيع ، لكنها نبتت لها أسنان. كل شارع هو فم، وكل باب هو لسان، يلعق قدميك وأنت تمر. لكنك لا تمر. أنت عالق في اللثة، حيث يتسرب الظلام، حيث يتلوى الضحك مثل دخان المداخن التي بردت منذ زمن طويل. قالوا إنك ستترك كل ما تحبه كثيرًا. لكن لم يذكر أحد أن كل شيء سيتركك في المقابل. تنهار المباني داخل صدرك، وتنهار مدن بأكملها إلى غبار في نبضك. القوس مشدود، يرتجف بثقل كل شيء كان مؤكدًا ذات يوم، مبعثرًا الآن. تتمسك بالمألوف، لكن الريح ماكرة. تتحرك، تتسلل، حتى تمسك بالدخان. الطرقات ناعمة تحت الأقدام، تذوب في الأفق، وتُترك لتتساءل عما إذا كنت كائنا حقيقيًا على الإطلاق.

تضحك النافذة حين تضغط بجبينك عليها. تتناثر الشوارع بالأسفل كالفئران تحت ألواح السطيحة. وأنت تقف في غرفة لا يتحرك فيها شيء، حتى الساعة عقاربها مشغولة من الزجاج، وعندما تنكسر، ستتذكر كيف تنسى. تهمس الجدران بالأسرار بلغة لم تتعلمها قط، لكنك ما زلت تفهمها. السهم يغني ويردد سترحل. كل شيء. مدينة مبنية من ورق وشلال مياه مالحة تنهار بين قدميك. تنظر إلى الأسفل. لا سطيحة هناك، فقط أمواج. انعكاسك هو ورق أيضًا، رقيق كالنفس، هش مثل آخر كلمة قلتها.

المنفى. هل هو مكان؟ أم شعور؟ ينزلق من بين أصابعك مثل رمل من الوعود. تمد يدك إلى الباب، لكن مقبض الباب يلمع مثل الزجاج على وشك التحطم. الشوارع تطن بقصص ترفض أن تحكيها لك. تخرج. إلى أين؟ إلى لا شيء يتذكر اسمك.

لا شيء كما يبدو، وكل شيء كما تنساه. أنت تركض، ليس بساقيك بل بأصابعك. أصابع ترسم السماء وكأنها خريطة، لكن الخريطة مقلوبة رأسًا على عقب، وأنت تائه في تجاعيدها. السهم الذي خرج من القوس انقسم إلى نصفين ــ نصف يطير إلى الخلف نحو الماضي، ونصف يحلق نحو مستقبل لم يوافق قط على الوجود. أنت تضحك لأن الريح تخبرك بذلك. أنت تضحك لأن الضحك هو صوت كل شيء يتكسر إلى قطع صغيرة. شظايا الذاكرة تتساقط كالمطر، لكن ليس على رأسك ــ لا، إنها تلتصق بحذائك، والآن أصبحت الأرض مبللة بمرور الوقت. البحر خلفك، لكنه أيضًا في جيبك. تشرق الشمس من فمك، وتغرب في عمودك الفقري. لا شيء له معنى، باستثناء عبثية معرفة أنك لن تعرف أبدًا. ريشة تهبط في شعرك، وترتديها مثل تاج مطروز من لحظات ضائعة.

الأرض تئن تحت قدميك، ليس من الألم، ولكن من الذكرى. تئن السماء، صدى عميق للخسارة لا يمكن أن يهتز أبدًا. أنت تحمل ثقل الغياب في عظامك، ثقيلًا مثل الملابس المبللة، ثقيلًا مثل قلوب أولئك الذين عرفوا المنفى ولكنهم لم يعودوا أبدًا. ينبح كلب في المسافة، ولكن لا يوجد كلب، فقط صوت الشوق يعوي في الريح. تومض الظلال على حافة رؤيتك - أشكال مألوفة، وجوه مألوفة - لكنها مجرد أصداء، وحتى الأصداء تتلاشى. ستترك كل ما أحببته كثيرًا، ولكن أولاً، ستتركك. ببطء. نبضة قلب واحدة في كل مرة. الشوارع ملطخة بالدموع التي لم يذرفها أحد. الهواء كثيف بكلمات لم يتحدث بها أحد. تقف على حافة حلم، وينهار تحت ثقلك. تدرك أن المنفى ليس مكانًا، بل صمتا، شاسعا وغير قابل للانحناء.

هل القمر صديق قديم، أم أنه لص؟ إنه معلق هناك، وأسرارك تتدلى مثل الأقراط، تتأرجح في ريح الليل. ينكسر قوس المنفى، وتقذف بك - ليس عبر الفضاء، ولكن من خلال الشعور. تصطدم بذكرى، ناعمة كجناح فراشة، لكنها حادة مثل شظايا الزجاج. الأشجار هياكل عظمية الليلة، أغصانها مثل العظام، وأوراقها مثل همسات محادثات مهجورة منذ فترة طويلة. يطن الهواء بشيء لا يمكنك تسميته. ربما تكون أغنية، ربما تكون ندمًا. يديك مغطاة بالغبار، لكنك لا تعرف ما إذا كان غبار الزمن أم غبار الأحلام. يمتد الطريق مثل سؤال، وكل خطوة هي إجابة لست مستعدًا لسماعها. كنت تعتقد أنك تغادر، لكن اتضح أنك لم تصل إلا إلى نفسك. الباب خلفك، لكن الباب أمامك أيضًا. تمشي. أم تطير؟

لقد كنت تحمل النجوم في جيوبك، وثقلها يضغط على اللحامات. المنفى ليس مسافة، إنه صوت - مثل تنهيدة الأب الذي يطوي يديه بعد أن تُروى القصة الأخيرة. القوس مشدود، لكنك لا ترى السهم أبدًا. تشعر فقط بحدة غيابه. في الظلام، تسمع النجوم تهمس باسمك، ولكن عندما تجيب، فإن صوت شخص آخر يتحدث. تترك وراءك كل شيء، لكن الأمر ليس كما تعتقد. إنه ليس الحذاء عند الباب، أو الكتاب نصف المقروء، أو الصورة. إنه أنت الذي وجد في تلك الأشياء. الآن، أنت متناثر، كوكبة بلا شكل. يضغط القمر نفسه على بشرتك، ناعمًا مثل راحة الأم. تطفو، ولكن ليس بالطريقة التي تعني الحرية. ترفع الريح شعرك مثل صفحات كتاب غير مكتوب. تتساءل عما إذا كان المنفى مجرد كلمة أخرى للانتظار.

المدينة تذوب وأنت المشاء. كل خطوة تذيب المباني وتتحول إلى برك من الحبر. لست متأكدًا من أين تنتهي الأرض وتبدأ السماء. ينكسر القوس، لكنه ليس خشبًا - إنه مرآة تتحطم إلى ألف انعكاس لا ينتمي إليك. تترك كل ما أحببته كثيرًا، لكن لا شيء يتركك. يلتصق بك، مثل الغبار، مثل رائحة الأوراق المحترقة.

الشوارع عبارة عن مرايا، لكنها تُظهر لك فقط ما هو خلفك. تحدق في انعكاسك، لكنه ليس وجهك. العيون مختلفة. الفم غير مألوف. تلمس الزجاج، ويتموج، ويجذبك إلى مكان أعمق ليس حقيقيًا. أم أنه كذلك؟ المنفى مرآة لا يمكنك كسرها أبدًا، مكان لا يمكنك تركه أبدًا. إنه يعكس كل ما فقدته، لكنه لا يُظهر لك أبدًا كيفية العثور عليه مرة أخرى.

لقد كنت تعتقد أن المنفى سيكون صاخبًا. مثل صوت البندقية أو هدير العاصفة. لكنه هادئ. هادئ للغاية. مثل التوقف بين ضربات القلب. ينكسر القوس، لكن لا يوجد صوت. تُركت ممسكًا بالوتر، مهترئًا وعديم الفائدة. الهواء يعبق برائحة المطر الذي لا يسقط أبدًا. تمشي في الشوارع، لكنها ليست شوارع. إنها مساحات. مساحات حيث كانت الأشياء في الماضي. متجر، منزل، ذكرى. لكنها الآن مجرد فجوات، مثل أسنان مفقودة في ابتسامة لا تنتمي إليك. السماء قريبة جدًا، تضغط لأسفل، وكأنها تحاول تذكيرك بشيء نسيته. لكنك لا تستطيع أن تتذكر. تهمس الريح، لكن كلماتها هراء، مقاطع لفظية تتفكك بمجرد مغادرتها الهواء. لست متأكدًا مما إذا كنت تمشي للأمام أم تقف ساكنًا. يبدو كل شيء وكأنه اللحظة التي تسبق تحطم شيء ما. تنتظر. لكن لا شيء يحدث.

0 التعليقات: