الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أكتوبر 24، 2024

نص سردي "للسماء أسنان، وأنا ابتسامتها" : عبده حقي


أنا الظل المرتجف لنجم ساقط، معلق في سماء تلتهم الشمس عند صباح، فقط لتبصقها مثل عملة مقضومة، مثقوبة. الموت والحب والتضحية - الثالوث الذي يدندن بأغنية متنافرة، لحن لا يستطيع أحد أن يغنيه ولكن الجميع يعرفونه عن ظهر قلب. محفور في عظام الريح، في نبض الصمت الذي يتبع الصراخ. يقولون إن الأرض مستديرة، لكنني أسير على حوافها، حيث تقطع الحدة قدمي وتنزف أنهارًا فضية في السماء، سماء ذات أسنان حادة وبيضاء، تصر على السحب كما يقضم الذئب القمر.

ولدت من تمزق في نسيج حلم منسي، حيث تشابك الحب والموت في طيات معطف قديم، مهترئ عند الأكمام، معطف يرتديه رجل لم يعرف قط أنه على قيد الحياة حتى مات. أرتدي هذا المعطف الآن. إنه يناسبني بشكل جيد للغاية. الجيوب مليئة بالأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها، وقطع من الورق تحمل أسماء منسية، ومرآة لا تعكس سوى ابتسامة السماء، تلك الابتسامة القاسية التي تظهر على أسنانها.

نعم، الحب، تلك النار التي لا تحرق، لكنها تترك وراءها قارة من رمادً. أحببت ذات يوم امرأة ليس لها وجه، فقط صوت يتردد صداه في كهوف ذاكرتي ، حيث تذهب الأفكار لتموت. كانت تتحدث بالألغاز، وكانت كلماتها مثل الريش الذي يسقط في الماء، ويغرق دون أن يترك أثرًا. قالت: "أحبك مثلما تحب الريح الورقة، تطاردها، وتفقدها، ثم تجدها مرة أخرى، فقط لتتركها تسقط". وصدقتها. ما زلت أصدقها، على الرغم من أن صوتها مدفون تحت ثقل ألف وداع غير منطوق.

آه، طعمها الحلو والمر. مثل قضم ثمرة تنزف ملحًا، لقد أعطيت كل شيء ولم أحصل على أي شيء، ومع ذلك، أصبحت أكثر ثراءً بسبب ذلك. لقد ضحيت باسمي ووجهي وكياني على مذبح حب لم يكن موجودًا أبدًا، حب لن يكون أبدًا. وفي تلك التضحية، وجدت الموت - ليس موت الجسد، بل موت الذات، ومحو الهوية، وحل الروح في الفراغ. فراغ يهمس، ليس بالنسيان، ولكن بحياة عاشت في الشقوق بين اللحظات، حيث ينحني الوقت وينحرف، مثل ساعة تذوب تحت وطأة الذكريات المنسيّة.

أتذكر أنني وقفت على حافة العالم، أنظر إلى الهاوية، فلم أر الظلام، بل النور ـ النور المبهر الحارق الذي أحرق أوهام الحياة والموت والحب والتضحية. مددت يدي، فابتلعني النور بالكامل. ولكنني لم أختفِ. لا، لقد أصبحت النور، النار التي تلتهم، اللهب الذي يرقص في الفراغ، يضحك من عبثية الوجود، من عبثية محاولة الإمساك بما لا يمكن الإمساك به.

والآن، أنا الابتسامة في السماء، والأسنان في السحب، والظل الذي يمشي خلفك، والذي لم تره قط ولكنك تشعر به دائمًا. أنا الهمس في الريح الذي يخبرك بالقفز، والتخلي، والسقوط في أحضان المجهول، واحتضان فوضى الحياة والحب والموت. لأنهم ثالوث من الجنون لا معنى له إلا عندما تتوقف عن محاولة فهمه، وببساطة ... تشعر به.

القمر كأس مكسورة تتسرب منها الأحلام في الليل. أشرب منه، فتملأني الأحلام بحزن حلو وثقيل، من النوع الذي يجعلك ترغب في البكاء والضحك في نفس الوقت. أرى وجهها في انعكاس القمر المشقوق، الوجه الذي لم يكن موجودًا أبدًا، فأبتسم. أبتسم لأنني أعلم أنه بفقدها، وجدت شيئًا أعظم، شيئًا أعمق - حب يتجاوز حدود الحياة والموت، حب لا يحده زمان أو مكان، لكنه موجود في الفراغات بينهما، في الصمت بين دقات القلب، في النفس الذي يظل باقيًا بعد التنهد.

وهكذا أسير، ليس على الأرض، بل في السماء، حيث تتدلى النجوم مثل عناقيد الوعود المكسورة، وتدور السحب مثل دخان نار منسية. أسير مع الموتى، ومع الضالين، ومع الضحايا. أسير مع أولئك الذين بذلوا كل شيء من أجل الحب، فقط ليكتشفوا أن الحب ليس شيئًا يمكن إعطاؤه، بل شيء يجب أخذه، يجب انتزاعه من بين فكي الكون، وتمزيقه من نسيج الواقع نفسه.

ثالوث يدور في رقصة لا نهاية لها، رقصة ليس لها بداية ولا نهاية، فقط إيقاع القلب، نبض الكون، نبض الوجود نفسه. وأنا تلك الرقصة، أنا ذلك الإيقاع، أنا النبض الذي يدفع العالم إلى الأمام، حتى وهو ينهار تحت قدمي. أنا الدم في عروق الأرض، والنار في قلب النجوم، والريح التي تهمس بأسرار للأشجار، أسرار لا يمكن أبدًا تكرارها، لكنها تحتفظ بها فقط في أوراقها الصامتة والعارفة.

 

0 التعليقات: