انكشفت الهضبة المكسوة بالصقيع وكأنها نفس متجمد أسير للكون. لم يكن الثلج ثلجًا بل شبكة بيضاء من الذكريات تبلورت بفعل شتاءات منسية. وفوق كل ذلك، كانت السماء ــ الشاحبة للغاية حتى أنها بدت وكأنها مستنزفة من كل قناعة ــ تحوم مثل إله متردد. كانت تمشي عبر هذا المشهد بتأنٍ يوحي بأنها كانت مهندسة هذا العالم الغريب وسجينته في الوقت نفسه.
كان معطفها، الطويل والثقيل للغاية، يردد خلفها همسات، وكأنه مخيط من ظلال ترفض الذوبان. وفي يدها اليمنى، كانت تمسك بشيء ــ كتاب أو ربما قطعة من الجليد متنكرة في هيئة كتاب. كان من المستحيل معرفة ذلك لأن الشيء بدا وكأنه يتغير في الملمس مع كل خطوة مدروسة تخطوها، متحولاً بين الصلابة والقصة.
كانت نظارتها الشمسية
تعكس فراغ العالم من حولها، فتضخمه. إذا تجرأت على النظر عن كثب، فربما لم تر انعكاسك
بل وجه شخص أحببته ذات يوم وفقدته، محفورًا بشكل خافت على الزجاج المنحني مثل فكرة
لاحقة للحزن. وبدا غطاء رأسها، الداكن مثل الحبر المسكوب على عجل، وكأنه يربطها بالأفق،
وكأنها قد تطفو بعيدًا في أي لحظة إلى هاوية الأبدية الشاحبة.
واصلت سيرها، ولم تصدر
الأرض تحت حذائها صوتًا. بل تنهدت بهدوء، وأطلقت أحلامًا تطفو إلى الأعلى وتبدد مثل
الدخان. أصبح صوت خطواتها - الإيقاع الميكانيكي والعضوي - نبضات قلب المشهد. واحد-
اثنان، واحد- اثنان، مثل دقات ساعة لا تقيس الوقت بل المسافة بين الحقائق.
توقفت المرأة. وصلت
عاصفة من الرياح، تحمل معها رائحة شيء غريب تمامًا: صفحات محترقة مختلطة برائحة المياه
المالحة. أدارت رأسها قليلاً، وكأنها تسمع صوتًا، رغم أن الهواء كان صامتًا. في تلك
اللحظة، توهج الكتاب في يدها بضوء قصير ودقيق، كاشفًا عن نقوش غريبة على غلافه بدت
وكأنها تتلوى مثل الكائنات الحية. لم يكن من الممكن قراءة عنوان الكتاب، لأنه مكتوب
بلغة أقدم من الثلج وأحدث من الحزن.
فجأة، لم تعد وحيدة.
انفصلت الظلال عن معطفها وبدأت تتحرك بشكل مستقل، ترفرف عبر الثلج في أنماط هندسية
غريبة. همسوا لبعضهم البعض بعبارات مجزأة: "الباب مفتوح جزئيًا"، "إنها
تحمل الخريطة"، "الأفق ينزف مرة أخرى". كانت أصواتهم ناعمة ولكنها ملحة،
مثل همهمات الأوراق المحاصرة في زاوية منسية من الغرفة.
دون سابق إنذار، تحدثت
المرأة. كان صوتها هادئًا لكنه يحمل ثقل انهيار جليدي ينتظر السقوط. قالت، مخاطبة لا
أحد وكل شخص: "هذا ليس المسار الذي اخترته. الثلج يتذكر، لكنه يتذكر بشكل غير
صحيح".
توقفت الظلال عن الحركة. بدا الأمر وكأنهم يتجمعون حول قدميها، ويتجمعون مثل الحبر المسكوب على قماش فارغ. وفي سكونهم، شكلوا الخطوط العريضة لباب - باب غير موجود ولكنه قد ينفتح على أي حال إذا أمعن المرء النظر.
انحنت المرأة ووضعت
الكتاب على الثلج، رغم أنه لم يغرق. كان يحوم هناك، فوق السطح مباشرة، وكأنه متردد
في الاتصال بالعالم. ببطء، خطت عبر الباب المظلم. وبينما اختفت، بدا أن الهواء يتماوج،
مما أدى إلى انحناء الضوء والصوت في دوامة تجذب كل شيء إلى الداخل. ثم ساد الصمت.
بدأ الثلج يتحرك مرة
أخرى، ليس كما تحركه الرياح ولكن كما لو كان حيًا، يعيد ترتيب نفسه في أشكال تحمل تشابهًا
خافتًا مع آثار أقدام المرأة. امتدت إلى ما لا نهاية، واختفت في أفق لم يعد مرئيًا.
في أعقاب رحيلها، بقي
الكتاب. تتوهج نقوشه الآن بشكل خافت، تنبض بإيقاع مع نبض قلب غير مرئي. إذا تجرأ أحد
على التقاطه، فسيجد صفحاته فارغة، باستثناء سطر واحد مكتوب بخط اليد في المنتصف:
"عندما ينسى الثلج، فسوف نتذكر ذلك".
0 التعليقات:
إرسال تعليق