وقفت حافي القدمين على حافة مرآة لا نهائية، خط ضبابي بسبب حجاب أحلامي السميك. لم يكن الأفق خطًا بل مدخلًا متلألئًا، يلمع مثل آخر نفس من المنارة. كنا أربعة وعشرين شخصًا - أسماء منسية باستثناء ثقل ظلالنا - ننطلق على الماء في سفينة أشبه بالشبح أكثر من كونها قاربًا. كان البحر يدندن بلحنه الأجوف، ويعد بالهروب والإبادة.
كان الرحيل عاديًا، عاديًا مثل المشي عبر لوحة. كان الهواء يفوح برائحة الحبر والبرتقال، وكانت همسات الحراك - مرشدنا، ومتآمرنا - تهتز مثل أصداف مكسورة في الليل. قال: "وراء الضباب، توجد مدينة حيث يشرق القمر ثلاث مرات". لم أستطع معرفة ما إذا كان يكذب، ولكن ماذا يمكنني أن أصدق غير ذلك؟
كان القارب، إذا كان
بإمكاننا تسميته كذلك، عبارة عن فسيفساء من الشظايا واليأس. حولي، كانت شظايا الضحك
تلتصق بالهواء مثل بذور الهندباء. كان معظمنا من مدينة طنجة، تلك المتاهة التي لا نهاية
لها من العمارات والدخان حيث كانت الساعات تدور دائمًا إلى الوراء. لم يكن لدينا هناك
سوى الذكريات التي لم نكن نريدها.
مع أول نفس من الفجر،
كشفت الرياح عن مخالبها. ما كان همسًا تحول إلى هدير، يمزق سفينتنا المؤقتة. ارتفع
البحر لملاقاتنا، ليس كماء ولكن كحيوان مفترس ذو دم بارد، تمتد أمواجه مثل الأيدي الجائعة.
تشبثت بدلوي، الذي
أصبح خلاصي وعذابي في نفس الوقت. فعل الآخرون الشيء نفسه. أفرغنا الماء الغازي حتى
أصبحت أذرعنا ثقيلة، ومع ذلك، كان يتدفق مرة أخرى. كانت ثريا ، بشعرها شبكة من الملح
والحزن، أول من تعثر. انزلق دلوها في البحر، وابتلعه البحر بالكامل، وكأنه لم يكن موجودًا
أبدًا. استمر صراخها لحظة واحدة فقط قبل أن تصمتها الأمواج.
ثم جاء البرد، وحش
له ألف أضراس. قضم عظامنا، همس بوعود الاستسلام. أتذكر مجيدو، الصبي الذي لا يزيد عمره
عن أغنية، وهو يمسك بدلوه وكأنه قلبه. قال: "إنها مجرد لعبة"، على الرغم
من أن أسنانه كانت تصطك بالكلمات إلى أجزاء. "سنفوز إذا التزمنا الصمت".
وبحلول الموجة التالية، اختفى.
مرت ساعات، أو ربما
قرون، وفقد الوقت كل معناه عندما رفضت الشمس أن تشرق. وقف الحراك، رجل الهمسات، شامخًا
وسط يأسنا، وكان صوته يخترق العاصفة مثل سكين من الحرير. قال: "الدلاء هي مرساة
لكم"، وكانت عيناه لا تعكسان البحر بل شيئًا أقدم وأكثر وحشية. "سوف تحملكم
إلى الشفق القطبي".
الشفق القطبي. كانت
الكلمة تتلوى في ذهني مثل الدخان، حلم ملفوف بشرائط ذهبية. ما هو؟ مكان، وعد، أم مجرد
كذبة أخرى؟ لم أسأل. لم يسأل أحد منا. الأمل، حتى لو كان زائفًا، كان أفضل من لا شيء.
بحلول الوقت الذي انقلب
فيه القارب، لم نعد مجموعة بل نجومًا متناثرة في سماء غارقة. ابتلع الماء أسماءنا ومخاوفنا
وصلواتنا. أمسكت بدلوي بقوة، وثقله الفارغ يسحبني إلى العدم. حولي، أصبح البحر أكثر
هدوءً، ليس أكثر هدوءً بل متعبًا، وكأن العاصفة قد تزفر أنفاسها الأخيرة.
انجرفت. ساعات، ربما
أيام. أصبح الدلو تحتي امتدادًا لي، لم يعد أداة بل رفيقًا. حولي طفت بقايا ما كنا
عليه: وشاح، حذاء، صدى خافت لترنيمة. ضغط البرد على صدري، بطانية ثقيلة من الحتمية.
ثم، الضوء. لم يكن
ضوء الشمس بل كان شيئًا آخر تمامًا، يتدفق من الشقوق في الأفق. لقد صدق الحراك؛ لم
يكن الشفق القطبي مكانًا بل كان حضورًا. لقد غلفني، دافئًا وكهربائيًا، وكأن الكون
نفسه قد لفني بين ذراعيه.
استيقظت على سطح السفينة،
ودلو الماء ما زال في يدي. من حولي كان الآخرون الذين نجوا، وجوههم محفورة بظلال ما
رأيناه. لم يتحدث أحد. لم يكن هناك ما يقال.
نظر إلي قائد السفينة
كما ينظر المرء إلى الأشباح. "أنت محظوظ"، تمتم، على الرغم من أن كلماته
بدت جوفاء. لم نكن محظوظين؛ كنا ببساطة غير مكتملين.
عند عودتي إلى الأرض
- أياً كانت الأرض - رأيت نفسي منعكسًا في عيون الغرباء. نظروا إلينا وكأننا نحمل المحيط
في داخلنا، وكأننا لم نعد بشرًا بل شيء آخر.
في تلك الليلة، جلست
على حافة الماء، ودلو الماء بجانبي. امتد البحر مثل كتاب مفتوح، كل موجة عبارة عن جملة
لم أستطع قراءتها. فكرت في ثريا ، ومجيدو، والآخرين الذين أصبحوا همسات في الريح.
لقد أنقذني الشفق القطبي،
لكنه لم يُجِب على أسئلتي. إلى أين يذهب المرء عندما يبتلع البحر اسمه؟ ربما أعود ذات
يوم، ليس كرجل ولكن كظل، ينزلق عبر الشقوق في الأفق.
أما الآن، فأنا أجلس
هنا، والدلو عند قدمي، في انتظار العاصفة التالية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق