كانت شمس الظهيرة تتدلى كإبرة فونوغراف قديمة تتسلل عبر السماء، تخدش السطح الأصفر لواجهات القاهرة، فتطلق لحناً لا يسمعه إلا أشباح المطربين.
وقفت أمام مدخل نهضة الشرق، الملاذ الأخير للعندليب عبد الحليم حافظ، المبنى المتهالك ولكنه متحدي، رجل صامت بحكمة يحرس أصداء صوت كان ذات يوم يتدفق مثل العسل في آذان ألف روح حب ضائعة. ترددت قبل أن أخطو إلى الداخل، وكأنني على وشك عبور عتبة بين عالمين، حيث يدور الزمن في دوامة، وتنزف الذكريات في الحاضر كما ينساب الحبر في الماء.
في اللحظة التي لامست
فيها قدمي الأرضية الرخامية المصقولة، سرت قشعريرة على طول عمودي الفقري. همست الممرات
باسمه. عبد الحليم. عندليب النيل. في أنفاس الستائر المخملية، "جانا الهوى"
في هدوء الثريات البلورية، يرتجف ضوءها بضحك لا مسموع . لم أقابله قط في حياتي، ومع
ذلك ملأ غيابه المكان بشكل أكثر اكتمالاً مما قد يفعله حضوره. انتقلت إلى عمق الشقة،
وقلبي ينبض على إيقاع قانون صامت.
كانت الجدران مبطنة
بذكريات جميلة - صور عبد الحليم، محبوسًا إلى الأبد في لحظات الشباب، يحدق فيما وراء
الزمن بعينيه المأساويتين. صورة له وهو يضحك، وبريق أسنانه أكثر إشراقًا من النجوم
التي ومضت ذات يوم فوق النيل وهو يغني. رسالة بخط يده، لا يزال توقيعه ملتفًا في النهاية
مثل نغمة باقية من أغنية حب غير مكتملة. يمكنني أن أسمعه تقريبًا يتحدث إلي من الماضي،
صوته دافئ ومغناطيسي، يجذبني إلى رقصة فالس بطيئة تشبه الحلم مع التاريخ.
ثم رأيته.
جرامافون قديم لم يمسسه
الغبار، وكأنه ينتظر يداً تعيده إلى الدوران مرة أخرى. وجدت الفينيل موضوعاً بالفعل
على طبقه، والأخاديد السوداء الرقيقة ملتوية مثل مسارات القدر التي ترسمها أصابع عرافة.
تحركت يدي من تلقاء نفسها، وخفضت الإبرة. تضخمت النغمات الأولى لـ "قراءة الفنجان"
في الغرفة، وملأت كل زاوية، وكل نفس، وكل ذرة غبار معلقة في ضوء ما بعد الظهر الذهبي.
"اجلس واستمع إلى قصتي، فأنا العرافة..."
أغمضت عيني، وفجأة،
لم أكن في أي مكان. كنت في كل مكان. فتى مغربي مرة أخرى، مستلقياً على سطح المنزل تحت
سماء مدينة فاس، وأمي تدندن بالأغنية وهي تطوي البياضات البيضاء لحياة لم تعشها بعد.
كنت في مكناس، متكئاً على جدار رطب في القصبة، أسمع الأغنية تتساقط من نافذة غير مرئية،
وكأن عبد الحليم نفسه يروي المصير الذي أسير نحوه. لقد وقعت في الحب مرة، ومرتين، وربما
إلى الأبد، ودائماً، دائماً، كان صوته هناك، ينهمر على قلبي مثل المطر الأول بعد صيف
طويل.
فتحت عيني، وكانت الغرفة
مختلفة.
أصبحت الأرائك المزخرفة
قوارب، حوافها المذهبة ملتوية مثل مقدمات قوارب الصيد، تطفو في نهر غير مرئي. لم تعد
المرايا تعكسني بل تعكس مدينة غارقة في الحنين، حيث يتبادل الماضي والحاضر القبلات
مثل العشاق السريين. أصبحت السجادة تحت قدمي محيطاً، وفي موجاته، رأيت صور الشعراء
والمغنين الذين خاضوا ذات يوم في أمواج الكلمات والألحان.
ثم سمعته.
نفس خلفي. حضور. تنهيدة
في الهواء، محملة بالشوق.
استدرت، وهناك، جالساً
على الكرسي العتيق، كان عبد الحليم. لم يكن في هيئة حبر على صورة، ولا شبح، بل كان
شيئاً أكثر من ذلك. كان المساحة بين الضوء والظل، والتموج في الهواء عندما تُعزف أغنية
عظيمة بعد سنوات من الصمت. كان وجهه متأملاً، وفي يديه كان يحمل فنجاناً من القهوة
السوداء، يتصاعد بخاره إلى ما لا نهاية.
قال: " أخيرا
ها أنت قد أتيت يا عبدو "، وكان صوته مختلطاً بالضحك والحزن.
أومأت برأسي، غير متأكد
ما إذا كنت مستيقظاً أم أنني انغمست تماماً في الموسيقى. صرخ ذهني في وجهي لأطرح ألف
سؤال ــ عن الحب، وعن الألم، وعن عبء كوني صوتاً يحمل آلام شعب بأكمله. لكن لساني كان
مثقلاً بالاحترام والتقدير، ولذا قلت الشيء الوحيد الذي أستطيع قوله.
"لقد كنت هنا دائما إلى جانبك ً".
ابتسم، وبينما رفع
الفنجان إلى شفتيه، ارتجفت الغرفة، مثل السراب قبل أن تختفي في أفق لا نهاية له من
الموسيقى. ذابت الجدران وتحولت إلى كثبان صحراوية، وتحول السقف إلى سماء مرصعة بالنجوم
في ليلة من ليالي القاهرة. كانت الأغنية لا تزال تعزف، ولكنها أصبحت أكثر هدوءً الآن،
وكأنها همسة بين القدر والذاكرة.
كنت أقف مرة أخرى في
رواق بيت "نهضة الشرق". كان الجرامافون صامتًا، والغبار يستقر على سطحه دون
أن يزعجه أحد. كان ضوء ما بعد الظهر الذهبي قد تلاشى، ليترك المجال لأولى أنفاس المساء.
خرجت، عائدًا إلى نبض
المدينة. كانت شوارع القاهرة، تغيش في حيوية لا نهاية لها، تتكشف أمامي مثل أبيات قصيدة
لم تكتمل. كان شبح "قارئة الفنجان" يطن في أذني، كسر أحمله الآن بين ضلوعي،
حيث يتشابك الماضي والحاضر إلى الأبد.
وبينما ابتعدت، كنت
أعلم أن عبد الحليم لم يغادر أبدًا .
مفتاح من الصدأ وأوتار
العود تفتح الباب الجدران تتنفس "المقام"، وتزفر الياسمين.
بيت عبد الحليم هو
حنجرة تدندن بعد الموت. هنا، الستائر مصنوعة من أخاديد الفينيل، وصوته لا يزال يخدش نفسه على الجص.
يدخل الكاتب المغربي،
وظله يذوب بالفعل في الخمسينيات: صبيا كان في فاس، خده مضغوط على راديو الترانزستور، يتشقق مثل الجوز. يدا الأم تعارك العجين على أنغام "قراءة الفنجان" ــ أغنية
العرافة. "تدور حبيبات القهوة في عروقه الآن."
يرى تلك المرأة، العرافة
في كلمات الأغنية، تتجسد كبقعة على السقف، وأصابعها تقطر نبوءات سوداء سميكة في فنجان.
"ستحب يا ولدي"، تغني، "وتحزن على
رجل لم يمت
أبدًا."
في الصالة، تحفر إبرة
الفونوغراف دوائر في راحة يد الكاتب. يتذكر حبه الأول - فتاة رقصت حافية القدمين على سطح مراكش، وتتأرجح وركاها "رسالة من تحت الماء"
في الغسق. "رسالة
من تحت الماء."
كيف تجمعت الأغنية
في رئتيه لسنوات. الآن، تغمر الغرفة. تسبح الأسماك بين ضلوعه، وتنثر خياشيمها كلمات الأغاني عن رسائل لم
تُرسل أبدًا، ويذوب الحبر في الأعشاب البحرية. يمر بيانو، ومفاتيحه تنبت منها المرجان. يحاول أن ينادي
باسمها-
فمه يمتلئ بماء نهر
النيل. يصعد الكاتب درجات تتعرج مثل موال حزين.
الطابق الثاني حيث
الوقت عبارة عن ساعة جيب ذابت بفعل الحمى. نظارات عبد الحليم تستقر
على مكتب، عدساتها ضبابية بفعل عقود من الزمن.
يضعها الكاتب. فجأة،
كل شيء يغني. إبريق الشاي يغني *أهواك*. السجادة تغرد بلهجة الصوف والنول. حتى ذرات الغبار ترتجف في النوتة الموسيقية. يضحك -صوت يشبه
صوت القيثارة يتقطع وترها- ثم يبكي. يدرك أن الحزن ما هو إلا حب مترجم من خلال صدى.
في غرفة النوم، عصا
المغني تتكئ على مرآة. يلمسها الكاتب. المرآة تسيل.
هناك يتلألأ حليم شابا،
لم تأكله البلهارسيا أو الشهرة بعد، وما زال سعاله مخلوقًا خجولًا يختبئ في صدره. يغمز
بعينه. "يقولون إنني ميت،" يهمس، "لكنني مجرد حرف علة نسيت مصر أن تبتلعه."
يريد الكاتب أن يسأل
عن جراحات الروح، كيف نفصل الندم عن اللحن - لكن الرؤية تتلاشى. كل ما تبقى هو قبعة فيدورا تقف على عمود السرير، حافتها ثقيلة بمنتصف
الليل.
ينزل إلى الحديقة.
أشجار البرتقال تتدلى مع أسطوانات الفينيل. أخاديدها رطبة، ما زالت ناضجة بصوت سوبرانو لخط مثل
"يا طائر الشوك،" رثاء رافق الكاتب ذات يوم عبر أزقة الرباط بعد جنازة والده. الآن، تقشر البرتقالات نفسها، تكشف عن أبواق الجرامفون حيث يجب أن يكون
اللب.
يعزفن أغنية "زي
الهوى" بشكل متكرر. تحمل الرياح اللحن إلى لوحة من النساء يصفقن- أخواته، بأيديهن المزخرفة بالحناء تضبط الوقت كما لو أن الإيقاع قادر على إحياء الموتى.
بجانب النافورة، يتكئ
تمثال عبدالحليم ، ويده مضغوطة على صدره الحجري. يجلس الكاتب، يشعل سيجارة.
تطفو الجمرات ، وتتحول
إلى يراعات ترسم *"سواح"* ضد الظلام. يفكر في كل الأشياء التي لا حدود لها:
الأغاني، الدخان، الطريقة
التي لا يزال شبح والدته يدندن بها "قراءة الفنجان" أثناء صب الشاي.
كانت العرافة محقة- إنه يحب الموتى بلطف أكثر من الأحياء.
يأتي الفجر كخدش على
ألبوم الليل. يتنهد المنزل، ويبدأ في طي نفسه ليتحول إلى كرة ثلجية تذكارية. يضع الكاتب ملعقة ملطخة بأنفاس المغني في جيبه.
في الخارج، تفتح القاهرة
شريطها الفوضوي.
تبث أجهزة الراديو
في سيارات الأجرة الأخبار والصلوات والأناشيد الشعبية ـ ولكنه يبتعد وهو يدندن بلحن مشبع بالمياه، وتتشبث رسائل من العالم الغارق بحذائه.
"بعض الأشباح لا تطاردنا"، هكذا يفكر.
"يغنيان ثنائيًا."
0 التعليقات:
إرسال تعليق