الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مارس 27، 2025

الجنة ليست ببعيدة.: عبده حقي


الحياة، بكل ألوانها وتبايناتها وتناقضاتها، هبة عظيمة. كل نفس نتنفسه، وكل شروق شمس نشهده، وكل لفتة طيبة نتلقاها أو نقدمها - كلها تُذكرنا بأن الحياة، رغم أحزانها وشكوكها، معجزة ثمينة. ومع ذلك، يبقى في قلوب كثيرة أمل، وحدس عميق، بأن وراء هذه التجربة الدنيوية، ينتظرنا شيء أجمل.

الحياة، كما نعرفها، هي توازن دقيق بين الفرح والكفاح، والنور والظلال. جمالها لا يكمن في الكمال، بل في سرّ الوجود - ضحكات الأطفال، وحكمة الكبر، وعبير الزهور بعد المطر، ولحظات الصمت التي يمتلئ فيها القلب بلا سبب.

ولكن حتى أجمل اللحظات هنا على الأرض يشوبها شعورٌ بالزوال. كل شيء يتغير، كل شيء يتلاشى. هذا الإدراك يدفع الكثيرين إلى الخوف مما يكمن وراءه - إلى تخيّل الموت كنهاية، أو ما هو أسوأ من ذلك، كبوابة للعقاب.

ولكن ماذا لو أسأنا الفهم؟

لطالما طاردت فكرة الجحيم - مكان العذاب الأبدي - خيال البشر لقرون. ولكن ماذا لو كانت هذه الرؤية نتاجًا للخوف، لا للحقيقة؟ ماذا لو لم يكن الكون محكومًا بالانتقام أو الغضب، بل بالرحمة اللانهائية؟

يتبنى عدد متزايد من المفكرين الروحيين والشعراء والمتصوفين، وحتى العلماء، فكرة أن الحياة الآخرة ليست عقابًا، بل شفاءً ولمّ شملًا وسلامًا. ربما لا وجود للجحيم - ليس لأن العدالة تُتجاهل، بل لأن الحب أعظم من العقاب.

هل يُصمّم خالقٌ رحيمٌ حقًا سجنًا أبديًا للأرواح التي كونها في الحب؟ أم أنه سيمنحها فرصًا لا حصر لها للنمو والتعلم والعودة إلى مصدر كل خير؟

تخيل هذا: لا روح تُفقد. لا أحد يُنسى. كل إنسان - بغض النظر عن رحلته، أو عيوبه، أو إيمانه، أو شكوكه - سيجد نفسه يومًا ما محاطًا بسلام أبدي يتجاوز كل إدراك.

هذه الرؤية لا تُنكر الألم والشر الموجودين في العالم. إنها ببساطة تُصرّ على أن للحب الكلمة الفصل. وأن المنكسر سيُعاد تأهيله، وأن التائه سيُعثر عليه، وأن كل دمعة ستُمحى.

الجنة الأبدية ليست ممكنة فحسب، بل هي النهاية الطبيعية لخليقة وُلدت في الجمال ومُقدّر لها أن تتعالى.

الإيمان بجنةٍ كونية لا يعني التهرب من المسؤولية أو تجاهل الظلم، بل هو الثقة بقصةٍ أكبر - قصةٌ تتغلب فيها الرحمة على العقاب، وينتصر فيها النور على الظلام في النهاية.

إن هذا الإيمان يُريح الحزانى، ويُقوي المُتألمين، ويُريح الخائفين من الموت. يُخبرنا أننا لسنا وحدنا، وأن الرحلة لا تنتهي بغمض أعيننا.

نعم، الحياة جميلة. إنها فرصةٌ للحب، والتعلم، والنمو، وتذوق الجمال الإلهي في الأشياء العادية. ولكن وراء الحياة، هناك ما هو أكثر - لا أقل. عالمٌ لا يُلوثه الحزن بالجمال، ولا يسرق فيه الزمن ما نُقدّره، وحيث تجد كل روحٍ موطنها أخيرًا.

الحياة -

شرارة في الظلام الدامس،

وردة تتفتح على حافة الزمن.

تغني في صرخة مولود جديد،

تتلألأ في ندى الصباح،

تدندن في سكون الغسق.

إنها جميلة -

ليس لأنها مثالية،

بل لأنها عابرة،

هشة،

مليئة بالمعنى الذي يهمس به الحزن والفرح.

ولكن ماذا لو -

عندما يُسدل الستار،

عندما نتجاوز حجاب الأنفاس -

لا نسقط في الصمت،

بل نصعد إلى النور؟

أخبرونا عن نيران وسلاسل،

وعويل لا ينتهي في أعماق الكهوف.

لكن الحب لا يلقي بأبنائه

في ليل أبدي. لم تُخلق الروح لتحترق، بل خُلقت لتعود.

لا جحيم ينتظر.

فقط صدى كل صلاة،

وشفاء كل جرح،

ولقاء كل القلوب التي تمزقت.

فما تبنيه الرحمة،

لا يهدمه.

كل الدروب، مهما ضلت،

ستعود إلى المصدر.

حتى المنهكون، المجروحون،

والذين تعثروا في الظلال -

سيدخلون الجنة هم أيضًا،

وتُنادى أسماؤهم بصوتٍ رقيق لا ينسى أحدًا.

لن تُنسى روحٌ واحدة.

لن تضيع دمعةٌ واحدة.

لن يُحكم علينا بأسوأ لحظاتنا،

بل سنُحتضن على حقيقتنا

تحت غبار الألم.

الجنة ليست ببعيدة.

إنها تزدهر فينا بالفعل -

في لحظات النعمة،

في الحب المُنْفَعَّل،

في الغفران الذي يُشبِه شروق الشمس.

لكن جنة ما بعد الحياة -

هنا حيث يهدأ الزمن إلى السكون،

حيث تُشَجِّع الألوان،

وتعود كل روح، كطائر، إلى دارها لتستريح.

لا خوف.

لا لهيب.

فقط إلى الأبد.

لذا عش.

عش بدهشة.

عش بعطف.

واعلم هذا -

عندما تنتهي الرحلة،

لا تنتهي القصة.

الحياة جميلة -

ولكن وراءها

جمال لا نهاية له.

0 التعليقات: