الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، مارس 25، 2025

التحول الرقمي والخوارزميات: من أدوات الخدمة إلى أدوات التحدي: ترجمة عبدو حقي

 


عند الحديث عن الخوارزميات، يتبادر إلى أذهان كثيرين صورة النماذج الرياضية المتكررة، والبناءات الهندسية المعقدة التي تستند إلى منطق رياضي صارم. غير أن هذا التصور لا يمثل سوى جزء بسيط من عالم الخوارزميات الذي اتسع وتعقّد في العقود الأخيرة. فقد انتقلنا من خوارزميات تقليدية تعتمد على التكرار والحساب، إلى نماذج تعتمد على العشوائية المنظمة، وهي خوارزميات تتبع قوانين الاحتمال لكنها لا تخلو من منطق داخلي محكم

ولأول مرة في التاريخ، بدأت هذه الخوارزميات تتوسع في ثلاثة أبعاد جديدة: التفكير، الاقتراح، والتخيّل. لم تعد مجرد أدوات لتنفيذ المهام، بل أصبحت تنافس الإنسان في ملكاته الأكثر تميزًا. لقد ظهر هذا التحول بوضوح مع تطور الذكاء الاصطناعي، الذي لا يكتفي الآن بتقليد السلوك البشري، بل يبتكر ويقترح ويعبّر عن رأي، بل ويتفوق أحيانًا في صياغة المشاعر والتصورات.

في السابق، كان الإنسان هو الفاعل الوحيد في مجالات التفكير واتخاذ القرار. كانت الآلات تُبنى لخدمته، لا لمنافسته. أما اليوم، فنحن نعيش منعطفًا تاريخيًا غير مسبوق، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على اقتراح حلول، واتخاذ قرارات، بل والتعبير عن الرأي، مما يشكل تحديًا جوهريًا للتميّز الإنساني.

إن المهندس المعماري الذي كان يتفرّد بالخيال والإبداع في تصوره للبنايات، أصبح يواجه نموذجًا من الذكاء الاصطناعي قادرًا على ابتكار أشكال أكثر جرأة ودقة. الكاتب الذي كان يعتقد أن العاطفة لا تكتب، بدأ يرى نصوصًا رقمية قادرة على إثارة مشاعر أعمق. وصلنا إلى نقطة بات فيها الخيال – وهو أحد أعقد وأرقى قدرات الإنسان – ميدانًا مفتوحًا للمنافسة.

كان هدف الإنسان منذ فجر التاريخ هو مقاومة الجهل، بالعلم والتعليم والتراكم الثقافي. غير أن ما نشهده اليوم هو العكس: هناك صناعة قائمة على إنتاج الجهل، أو ما يمكن تسميته بـ "صناعة التجهيل". هذه الصناعة لا تعتمد على القمع، بل على التفتيت والتشتيت والتشكيك، عبر أدوات رقمية تنقل الفرد من حالة التراكم المعرفي إلى حالة من الانقطاع والعزلة.

لقد أصبح من الممكن أن يعيش الإنسان أيامًا دون أن يلتقي بأحد، في فضاء رقمي يخلق له واقعًا خاصًا، ينعزل فيه عن الآخرين، وتضعف فيه مناعته النقدية والفكرية. ما يسمى بـ"المعارضة الرقمية" لا تقف عند حدود التعبير، بل تشكّل أحيانًا تهديدًا للبنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع، عبر زعزعة الثقة في كل شيء.

من أخطر ما تسرب إلى الحياة اليومية من علوم القرن العشرين هو مبدأ اللايقين، الذي كان في الأصل مبدأ فيزيائيًا يعبّر عن حدود معرفتنا الدقيقة بالأشياء. غير أن هذا المبدأ، بفعل الخوارزميات، أصبح يتجلى في كل تفاصيل حياتنا: في الأخبار، في التفاعلات، في شبكات التواصل. بات من الصعب أن نثق في أي معلومة بشكل مطلق. أصبحت الحقيقة نسبية، والمصادر الرسمية ليست بالضرورة أكثر مصداقية من غيرها.

في هذا السياق، لم يعد المتحدث الرسمي يمثل مصدرًا للمعلومة، بل صار دوره يقتصر على محاولة ترميم الثقة المهزوزة وتأكيد الأخبار في زمن تراجعت فيه النسب المئوية لليقين. إنه زمن الشك، زمن المعقولية المعلّقة.

إن الهوة الرقمية بين من ينتج الذكاء الاصطناعي ومن يستهلكه تتسع يومًا بعد يوم. الدول التي تطوّر هذه التقنيات تملك نخبة فكرية تدق ناقوس الخطر، وتحذر من تداعيات هذا التحول، بينما الدول المستهلكة، ومن ضمنها دولنا، تستقبل هذا المنتج دون أدوات تحليل ولا وعي كافٍ بالنتائج.

نحن في "المصب"، نستقبل دون أن ننتج، نستهلك دون أن نملك آليات النقد والمساءلة. وهذا ما يجعلنا أكثر عرضة للتأثير، لأننا نعيش تحت وهم الحياد الرقمي. والحقيقة أن الخوارزميات ليست محايدة. إنها موجهة، مضمّنة برؤى ومصالح من يصممها، تخترق الرأي العام وتشكّل الوعي الجمعي بشكل خفي، وفعال.

من أسباب هذا التأثير الكبير أن نظم التعليم في العالم العربي تضيق الخناق على الفلسفة والتفكير النقدي، ولا تمنح الأجيال الجديدة أدوات للمساءلة أو الشك الإيجابي. نتيجة لذلك، نجد جيلًا هشًّا أمام المحتوى الرقمي، قليل المناعة أمام الدعاية، سهل الانقياد وراء الخوارزميات.

أحد أخطر ما تنتجه "المعارضة الرقمية" هو ما يسمى بالتغذية الراجعة. إذ يمكن لموجة غضب رقمية أن تحقق مطلبًا معينًا، فيتحول هذا الإنجاز – دون وعي – إلى "دليل نجاح"، ويغدو نموذجًا للتكرار، بل وللاستقواء. يحدث ذلك في غياب التحليل العقلاني، فتصبح ردة الفعل العاطفية وقودًا لمعارك مستقبلية، دون فهم السياقات أو الأدوات المستعملة.

نحن أمام عصر تتغير فيه قواعد اللعبة. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل فاعل ثقافي وفكري واجتماعي جديد. وهو يفرض علينا إعادة النظر في مفاهيمنا حول المعرفة، والسلطة، والثقة، والخيال. المعركة ليست تقنية فقط، بل معرفية بامتياز، ومن يخسرها لا يخسر فقط الحاضر، بل يفقد القدرة على صناعة المستقبل.

0 التعليقات: