في كتاب "الشاشة التعاطفية: السينما وعلم الأعصاب"، ينطلق المؤلفان فيتوريو غاليسي وميشيل غيرا في رحلة متعددة التخصصات تربط بين عوالم علم الأعصاب الإدراكي ونظرية السينما. يسعى هذا التعاون إلى كشف الآليات المعقدة التي تأسر السينما من خلالها جمهورها وتتفاعل معهم. من خلال التعمق في الأسس العصبية لمشاهدة الأفلام، يقدم الكتاب منظورًا جديدًا لتفاعلنا العاطفي والإدراكي مع التجربة السينمائية.
يقدم فيتوريو غاليسي،
عالم الأعصاب المتميز والمعروف باكتشافه المشترك للخلايا العصبية المرآتية، فهمه العميق
لدور الدماغ في الإدراك الاجتماعي والتعاطف. أما ميشيل غيرا، المنظر السينمائي المخضرم،
فيساهم برؤاه العميقة في التقنيات والسرديات السينمائية. ويقترحان معًا أن تفاعلنا
مع الأفلام ليس مجرد تجربة بصرية سلبية، بل هو محاكاة فعّالة تُشرك أنظمتنا الحسية
والحركية والعاطفية. يفترض هذا المفهوم، المسمى "المحاكاة المجسدة"، أن المشاهدين
يُحاكون داخليًا الأفعال والعواطف والأحاسيس المعروضة على الشاشة، مما يُعزز شعورًا
عميقًا بالارتباط بالشخصيات والسرد.
يتألف الكتاب من ستة
فصول، يستكشف كل منها بدقة جوانب مختلفة من تجربة الفيلم من منظور علم الأعصاب. تُمهّد
الفصول الأولى الطريق للانطلاق من خلال تقديم مبادئ المحاكاة المجسدة وأهميتها في فهم
الإدراك البشري والتفاعل الاجتماعي. تتعمق الفصول اللاحقة في تقنيات سينمائية محددة
- مثل حركات الكاميرا والمونتاج واللقطات المقربة - وتدرس كيف تُثير هذه العناصر استجابات
عصبية وعاطفية مُحددة لدى المشاهدين. على سبيل المثال، يُحلل المؤلفان مشاهد شهيرة
من أفلام مثل «البريق» و»صمت الحملان» و»قصة لعبة»، موضحين كيف يُمكن لبعض الخيارات
الإخراجية أن تُثير التعاطف والانغماس من خلال عكس العمليات الإدراكية والعاطفية الواقعية.
تكمن إحدى نقاط القوة
البارزة للكتاب في قدرته على دمج أبحاث علم الأعصاب التجريبية بسلاسة مع تحليل الأفلام.
يدعم غاليسي وغيرا حججهما بنتائج دراسات حول الخلايا العصبية المرآتية والإدراك المُجسّد،
مُوضحين كيفية تنشيط هذه الآليات العصبية أثناء مشاهدة الأفلام. لا يُثري هذا النهج
متعدد التخصصات فهمنا للتفاعل السينمائي فحسب، بل يُقدم أيضًا رؤى قيّمة في مواضيع
أوسع مثل التعاطف والجماليات وطبيعة التجربة الإنسانية.
علاوة على ذلك، يتحدى
كتاب «الشاشة التعاطفية» المفاهيم التقليدية للمشاهدة من خلال التأكيد على الدور النشط
لجسد المُشاهد ودماغه في بناء التجربة السينمائية. يُحوّل هذا المنظور الخطابَ من إطارٍ
بصريٍّ وتفسيريٍّ بحتٍ إلى إطارٍ يُقرّ بالأبعاد الحسية المتعددة والمُجسّدة لإدراك
الفيلم. ويدعو القراءَ إلى إعادة النظر في كيفية تأثير الأفلام على المستوى الشخصي
والفسيولوجي العميق، متجاوزةً الحواجز الثقافية واللغوية.
ومع ذلك، لا يخلو الكتاب
من تعقيداته. قد يجد القراء غير المُلِمّين بعلم الأعصاب بعضَ أقسامه مُكثّفةً، لا
سيما تلك التي تتعمق في تعقيدات الآليات العصبية ومصطلحاتها. ومع ذلك، يبذل المؤلفان
جهودًا جديرة بالثناء لتوضيح هذه المفاهيم، مُقدّمين مُسردًا وشروحًا واضحةً تُسهّل
الفهم.
وفي الختام، يُمثّل
كتاب «الشاشة التعاطفية: السينما وعلم الأعصاب» عملًا رائدًا يُزاوج بنجاح بين تخصصات
علم الأعصاب ودراسات السينما. ويُقدّم حجةً مُقنعةً تُؤيّد الطبيعة المُجسّدة للتجربة
السينمائية، مدعومةً ببحثٍ علميٍّ دقيقٍ وتحليلٍ مُتعمّقٍ للأفلام. يعد هذا الكتاب
موردًا لا يقدر بثمن للباحثين والمتحمسين المهتمين بفهم الروابط العميقة بين تركيبتنا
العصبية وفن السينما.
0 التعليقات:
إرسال تعليق