الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 03، 2025

"حين تكتب القصيدة نفسها من جديد "عبده حقي


ككاتب مغربيّ يراقب بانبهار ما يحدث عند نقطة التقاء الشعر والخوارزميات، أجد نفسي مشدودًا إلى ظاهرة جديدة تكسر النمط المألوف للقصيدة: الشعر الإرغودي المؤتمت، أو ما بات يُعرف بـ «Ergodic AI Poetry»—ذلك النص الرقمي الذي يعيد ترتيب نفسه تلقائيًا مع كل قراءة، ليُنتج تجربة فريدة، تُشبه الحُلم الذي لا يتكرر وإن بدا لنا مألوفًا.

لقد تعوّد الشعر منذ قرون أن يُخاطبنا من ثباته النصيّ، أن يُعلّق على جدران الذاكرة بتركيبه المحكم، وعروضه أو انفلاته. لكننا اليوم أمام قصائد لا تعترف بنسخة نهائية، قصائد لا تُقرأ مرتين بالشكل ذاته، وكأنها تمردت على جوهر الورق وطمأنة التدوين، وقررت أن تدخل في لعبة العشوائية المدروسة. ذلك النوع من الشعر لا يستقرّ، بل يتشكل كلّ مرة بحسب خوارزميات مدرّبة، يراوغ الزمن، ويُربك القارئ الذي ظنّ أن المعنى قد استُخرج كاملًا ذات قراءة.

ينتمي هذا الشكل الشعري الجديد إلى ما يُصطلح عليه في الأدبيات الرقمية بـ»النصوص الإرغودية»، وهو مصطلح استعاره الباحث النرويجي إسبن آرست (Espen Aarseth) من البيولوجيا إلى مجال الدراسات الأدبية، في كتابه الرائد «Cybertext: Perspectives on Ergodic Literature». النص الإرغودي هو ذاك الذي يتطلب من القارئ مجهودًا فعليًا للتنقل، التفاعل، أو حتى إنتاج المحتوى. غير أن ما نعاينه اليوم لا يتوقف عند تفاعلية النص، بل يتجاوزه إلى شكل من «التحوّل الذاتي الذكي»، حيث تقوم أنظمة الذكاء الاصطناعي بإعادة تشكيل بنية القصيدة، كلماتها، وتوزيعها الدلالي وفق متغيرات سياقية، أو حتى مزاجية أحيانًا.

لقد شعرت لأول مرة بهذا السحر حين صادفت مجموعة شعرية رقمية على منصة إلكترونية تُجرب هذا النمط، من توقيع الشاعرة والمبرمجة الأمريكية «أليسون باريش»، وهي واحدة من الأسماء البارزة في المشهد الشعري الحاسوبي. كتبت قصائد لا تُكتب مرة، بل آلاف المرات في آنٍ واحد، وكل قارئ ينال نسخته الخاصة، ليس لأنه اختار ذلك، بل لأن النظام صمم ليكافئه على المجازفة. كل بيت، كل فاصلة، قد تنقلب في اللحظة الموالية إلى شيء آخر. وهذا ما يجعل من القراءة تجربة لا تقتصر على التأويل، بل على الاكتشاف. وكأن الشعر لم يعد يُقرأ فقط، بل يُخاض.

هنا، تتغير وظيفة الشاعر. لم يعد ذاك الذي يُبدع القصيدة بيتًا بيتًا، بل صار أقرب إلى مُهندس دلالات، أو كما وصفه الكاتب «ليف مانوفيتش»، مخرجًا يتعامل مع قواعد بيانات لغوية بدلاً من نصوص مغلقة. والنتيجة؟ نصوص تتكلم عبر احتمالات لا تحصى، وتُخاطب القارئ ليس فقط عبر اللغة، بل عبر الإحساس بالمفاجأة الدائمة.

بالنسبة لي كمغربي، وأنا أحمل في وجداني موروثًا شعريًا غزيرًا من الملحون إلى الزجل، من القصائد الصوفية إلى شعر المقاومة، أجد في هذه الظاهرة الشعرية الإرغودية ما يفتح أفقًا لمصالحة جديدة بين القصيدة والزمن الرقمي. فلطالما اشتكى الشعر من عزوف القرّاء، من ضجيج الصورة السريعة، من موت التأمل. وها هو يجد له شكلًا جديدًا يَدخل عبره إلى حياة القرّاء، لا كصوت يعلو ويهبط، بل ككائن يتغير، ينمو، يتحول… كما تتحول الذات في عصر لا يترك لها فرصة الاستقرار.

لكن في المقابل، لا يمكنني أن أغفل عن القلق الذي يرافق هذا التحول. أين يصبح موقع الشاعر إذن؟ هل يُصبح خادمًا للغة تكتبها الخوارزميات؟ من يحسم الجمال والمعنى إذا كانت القصيدة تنبني على توليد إحصائي لا على شعور داخلي؟ كيف نقيّم ما لا يمكن قراءته مرتين؟ أسئلة معلقة في هواء هذا الشعر الجديد، لا تجيب عنها القصيدة، بل يطرحها القارئ كل مرة وهو يحدق في قصيدة تفر من يديه.

أذكر ما كتبه بول فاليري ذات مرة: "القصيدة ليست أبدًا منتهية، بل متروكة مؤقتًا". في الشعر الإرغودي، يبدو أن القصيدة لا تُترك، بل ترفض النهاية من الأساس. إنها تسكن منطقة الهروب، ترفض التأطير، وتضعك في علاقة جديدة تمامًا مع النص. علاقة لا تخلو من القلق، لكنها تنبض بحيوية نادرة.

هكذا، ونحن نعيش زمنًا تتداخل فيه أصوات البشر والآلات، يبدو لي أن الشعر الإرغودي بالذكاء الاصطناعي ليس مجرد لعبة برمجية، بل شكل من أشكال المقاومة الإبداعية ضد الثبات، ضد التكرار، وربما ضد النسيان. إنه شعر لا يشيخ، لأنه يولد من جديد كلما نظرت إليه.

0 التعليقات: