في تصعيدٍ جديدٍ ينذر بتفاقم الأزمة بين باريس والجزائر، بات 28 دبلوماسيًا جزائريًا مهدّدين بالترحيل من الأراضي الفرنسية، في خطوةٍ قد تُشكّل نقطة اللاعودة في علاقاتٍ عرفت تاريخًا طويلًا من المدّ والجزر، لكنها لم تلامس من قبل هذه الحافة الحادة من الانهيار المؤسساتي المتبادل. إن فرنسا، عبر تصريح حاسم لوزير خارجيتها جان-نويل بارو، أعلنت نيتها الرد بالمثل على القرار الجزائري بطرد 15 دبلوماسيًا فرنسيًا من الجزائر، مهددةً بإعادة هؤلاء الدبلوماسيين الجزائريين الذين "لا يملكون تأشيرات سارية"، وفق تعبيره.
ليست المسألة هنا مجرد
إجراء إداري أو رد فعل انفعالي عابر، بل هي مرآة لأزمة أعمق تعكس انكسار ما كان يومًا
يُقدَّم كإطار قانوني ونموذج للتعاون الدبلوماسي بين البلدين. إذ إن الاتفاقين الثنائيين
الموقَّعين في 2007 و2013، واللذين مكّنا حاملي الجوازات الدبلوماسية وجوازات الخدمة
من حرية التنقل والإقامة المؤقتة (90 يومًا لكل 180 يومًا دون تأشيرة)، قد دخلا عمليًا
في حالة شلل تام، وربما إلى الأبد.
البداية الحقيقية للأزمة
تعود إلى فبراير ومارس 2025، حينما شرعت فرنسا في فرض قيود غير مسبوقة على دخول مسؤولين
جزائريين حاملين لجوازات دبلوماسية. القرار الفرنسي جاء بعد امتناع الجزائر عن التعاون
في ملفات الترحيل والتسليم القسري لعدد من رعاياها المقيمين في فرنسا، والذين تعتبرهم
باريس "عناصر خطيرة" أو "مقرّبين من النظام الجزائري". حينها،
عمدت الداخلية الفرنسية، تحت إشراف الوزير برونو روتايو، إلى إعداد "لائحة سوداء"
تجاوزت لاحقًا 4000 مسؤول جزائري ممنوعين من دخول التراب الفرنسي.
رد الجزائر جاء متأخرًا،
لكنه لم يخلُ من الحنكة السياسية. ففي 11 مايو 2025، طالبت الجزائر بشكل رسمي فرنسا
بسحب 15 دبلوماسيًا تم إرسالهم حديثًا إلى السفارة الفرنسية في الجزائر دون المرور
بإجراءات الاعتماد الرسمية، متهمة باريس بانتهاك بنود الاتفاق الثنائي. أما فرنسا،
فاعتبرت ذلك طردًا سياسيًا غير مبرر، وردّت بقرار مماثل، مستهدفة دبلوماسيين جزائريين
مقيمين على التراب الفرنسي، معظمهم لا يشتغلون في السفارات أو القنصليات، مما يثير
الشكوك حول أدوارهم الأمنية أو الاستخباراتية.
يبدو أنّ جذور الأزمة
لا تتعلق فقط بتأشيرة أو بند قانوني مُبهم، بل تنبع من أزمة ثقة سياسية وأمنية مستفحلة
بين البلدين. الاتفاقات الثنائية التي كانت تسمح بهذه الحركة المرنة بين فرنسا والجزائر
لم تكن قائمة فقط على أحكام قانونية، بل على مبدأ ضمني: حسن النية. وقد انهار هذا المبدأ
منذ أشهر، مع تفاقم التوترات حول قضايا الهجرة، وملف الصحراء الغربية، والتقارب الجزائري-الروسي،
وأخيرًا، ملف المعارضين الجزائريين في المنفى.
الطرد المحتمل للدبلوماسيين
الجزائريين، والبالغ عددهم 28، يضعنا أمام مشهد معقد. هؤلاء، بحسب المصادر الفرنسية،
لا يتمتعون بوضع دبلوماسي رسمي معتمد، كما أنهم تجاوزوا المدة القانونية المسموح بها
وفقًا للاتفاقيات الثنائية. غير أنّ الجانب الجزائري يعتبر أنّ الإجراءات الفرنسية
تمثل خرقًا أوليًا لتلك الاتفاقات، إذ أنها بدأت منذ فبراير 2025، مع تكرار حالات منع
أو ترحيل مسؤولين جزائريين من مطارات فرنسية رغم امتلاكهم لجوازات دبلوماسية.
ما نشهده اليوم هو
نمط من التصعيد التدريجي أشبه بما يسميه المحللون السياسيون بـ"الانتقام المتبادل
المقنن". فالجزائر منعت 15 دبلوماسيًا فرنسيًا من العمل، وفرنسا ترد بتحديد إقامة
28 دبلوماسيًا جزائريًا غير معتمد. وبين هذا وذاك، ينهار مبدأ "حرية الحركة الدبلوماسية"
الذي كان أساس العلاقات ما بعد الاستعمار بين البلدين. إنها مرحلة الانفجار البطيء.
الأسوأ من ذلك أن هذا
الصراع لم يعد سياسيًا فقط، بل أصبح قانونيًا أيضًا. فكل طرف يتشبث بتفسيره الخاص للاتفاقيات
الثنائية، ويستند إلى قراءات متناقضة لبنودٍ وُقعت في زمن كانت فيه العلاقات أكثر استقرارًا.
وما يزيد من تعقيد الصورة هو غياب أي وساطة جدية حتى الآن، سواء من داخل الاتحاد الأوروبي
أو من طرف دول المتوسط.
إذا تم تنفيذ عمليات
الطرد فعليًا خلال الأيام المقبلة، فإن العلاقات الجزائرية-الفرنسية ستدخل نفقًا مظلمًا.
تعليق العمل باتفاقيتي 2007 و2013 يعني بداية نهاية مرحلة كاملة من "الدفء المتقطع"
الذي ميّز السياسة الفرنسية تجاه الجزائر منذ مطلع القرن. كما سيفتح الباب أمام خطوات
تصعيدية أخرى، قد تشمل تقليص التمثيل الدبلوماسي، أو حتى إغلاق بعض القنصليات، وهو
ما سيؤثر مباشرة على الجالية الجزائرية الضخمة في فرنسا.
كما لا يُستبعد أن
تستغل الجزائر هذا التوتر للبحث عن تحالفات بديلة إقليمية، مثل تعميق التعاون مع روسيا
والصين، بينما قد تمضي فرنسا قدمًا في تشديد سياساتها تجاه ملف الهجرة واللاجئين الجزائريين،
تحت غطاء الأمن القومي ومكافحة "التغلغل المخابراتي الأجنبي".
بين طرد ورفض اعتماد،
واتهامات متبادلة، وانهيار اتفاقات كانت تعتبر من أعمدة العلاقة الفرنسية-الجزائرية،
تدخل المنطقة برمتها في موجة اضطراب جديدة. الصراع لم يعد دبلوماسيًا فقط، بل بات انعكاسًا
لتحولات دولية أكبر، تتعلق بإعادة تشكيل النفوذ، وانكسار تحالفات ما بعد الكولونيالية.
وإن كان لكل أزمة فرصة،
فهذه الأزمة لن تُحل إلا باعتراف متبادل بأن الشراكة لا تُبنى فقط على المصالح، بل
على احترام متبادل للسيادة والإجراءات، وهو ما يبدو حتى الآن حلمًا بعيد المنال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق