الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، مايو 05، 2025

نشيدٌ لجوع غزة: عبده حقي


النهار مكسور الرقبة،

والشمس تهذي من شدّة الحُمّى،

حين فتحت السماء عينيها على خيمةٍ ملتويةٍ من شراشف الغبار،

تحتها تمددت الطفولة كعصفورٍ مذبوحٍ يركض بلا جناحين.

الأواني تصرخ.

القدور تتزاحم كالقبور.

والطفلة... الطفلة تشهر قدرًا أسود، لا قاع له، كأنها ترفع سيفًا ضد العالم.

رأيتها.

رأيتُ في جبهتها خارطةً من كُحلِ البارود،

وفي يديها رعشة القمح الذي لم يولد.

وفي عينيها، طائران غارقان في دمعٍ مرٍّ

يحومان حول مائدةٍ محذوفة من الكتب السماوية.

غزة لم تعد مدينة،

بل حلمٌ ممزّقٌ يُلقى في سلة قمامة الأمم.

لم تعد طفلتها طفلة،

بل قَدرٌ صغيرٌ،

يُمسك بمقبض الطنجرة كمن يُمسك برقبة النجاة في بحرٍ لا يحبّ أحدًا.

جدارٌ من لحمٍ متوتر.

أصواتٌ تتقافز مثل أسماكٍ في فمِ حوتٍ جائع.

الرؤوس مائلة، العيون زجاجية،

كأنهم جميعًا يَحلمون بحبة أرزٍ تسقط من كوكبٍ ساهيٍ في السماء.

الطفلة تمدّ يدها

لا للطعام،

بل للحق في أن تُنسى قليلًا.

أن لا تُذكر في نشرات الأخبار كرقم.

أن لا تُعرض صورتها إلا في دفترٍ مدرسي،

لا في مهرجانات الذنب الموسمية.

يحدث أن تصير الطنجرة قمرًا،

تدور حول أيدي الجوعى كأملٍ معدنيّ،

ويحدث أن تصير الصرخات موسيقى سوريالية تُعزف على عظام الطفولة،

ويحدث أن يقف العالم مدهوشًا أمام قدرٍ فارغٍ

كأنه أعظم تمثالٍ للجريمة.

النساء تصرخ في الظل.

الرجال يمدّون أذرعًا من دخان.

والأطفال ينبتون مثل حشائش ضائعة في زقاق الجوع.

كل شيءٍ في غزة قابل للالتهام:

السماء،

الملح،

القصائد،

والأحلام التي تشبه أرغفة لم تختمر بعد.

من بين الشقوق،

يتسلّل طيفُ خبزٍ،

لكنّه يذوب كالضوء في فمِ الغبار.

وحدها الطنجرة تبقى،

مفتوحة الفم، صامتة، شاهدة.

كأنها بلاهة التاريخ.

كأنها عدالة الآلهة القديمة حين كانت تأكل أطفالها.

كم مرة ستُرفع هذه القدور إلى السماء؟

كم مرة سيُقايض الجوعُ الطفولةَ بالتراب؟

وكم مرة سيخونُ العالم مراياهُ حين يرى هذا الوجه المزمجر بالحاجة؟

في الليل،

تنام الطفلة وهي تعانق الطنجرة.

تظنها أمها.

تحلم أنها مملوءة بحليب الكلام،

تحلم أن صوت الملعقة ليس قصفًا،

بل رنين أغنيةٍ من أمٍّ اسمها المطر.

في الحلم،

تطير الطنجرة وتتحول إلى سحابة،

ويصعد الأطفال على سلالم الضوء،

يغنون،

"يا ليل، لا تجلب لنا الفجر إن لم يكن من قمح."

وفي الحلم أيضًا،

الآباء لا يبكون،

والعالم لا يدير وجهه حين يسمع أنين الطناجر.

وفي الصباح،

يعود كل شيء كما كان:

الطفلة تطرق الحديد بأملٍ صدئ.

والعالم يقرأ الخبر بسرعة... ثم ينقر "أعجبني".

غزة لا تموت.

غزة تكتب وصيّتها كل صباح فوق فوهة الطنجرة:

"هنا صراخٌ لم يُسمع بعد،

هنا صغارٌ يعرفون أن الخبز حكايةٌ لا تُروى للجميع."

0 التعليقات: