أصبح الخوف من الفوات (FOMO) ظاهرة ثقافية واجتماعية يتغذى عليها الإنسان المعاصر كما تتغذى النار على الحطب. إنه الخوف غير المبرر من أن يفوته شيء: حدث، لحظة، خبر، محادثة، تجربة، أو حتى صورة تُنشر دون أن يكون جزءًا منها. هذا الخوف لا ينبع من غريزة البقاء كما يُخيل للبعض، بل من شعور داخلي بعدم الاكتمال، كأن الفرد لا يكون كاملًا إلا إذا كان "متصلًا"، حاضرًا في كل لحظة، مرئيًا ومُراقبًا.
في كتابها «The Happiness
Effect» تُشير Donna Freitas إلى أن طلاب الجامعات اليوم يعانون من قلق
دائم بسبب شعورهم بأنهم لا يواكبون ما يفعله الآخرون. تنقل إحدى الطالبات قولها: «"أشعر
أنني لو غبت عن السوشيال ميديا ليوم واحد، سأفقد رابطًا خفيًا بالعالم."« هذا
الرابط ليس رابطًا معرفيًا، بل هو إحساس بالانتماء، بالوجود، وبأنك "مرئي"
في فضاء رقمي لا يرحم الغياب.
يشكل هذا الوهم الرقمي
نسقًا من الاستلاب الذاتي، حيث تتحول الحرية إلى التزام، والخصوصية إلى سلعة، والاختيار
إلى ضغط خفي. لم تعد شبكات التواصل فضاءً للاختيار الحر، بل أصبحت ساحة سباق لا يهدأ،
تُحكمها خوارزميات تعي جيدًا كيف تغذي قلق الإنسان، وتُدمنه على لحظة التفاعل اللحظي.
يكفي أن تفتح تطبيق إنستغرام أو تيك توك حتى تجد نفسك وسط عالم من اللحظات المصطنعة،
وجوه مبتسمة، رحلات مذهلة، طعام مثالي، أجساد لا تشيخ، حياة لا تعترف بالملل أو الانكسار.
يرتبط وهم FOMO ارتباطًا وثيقًا بآليات رأس المال الرقمي،
وهو ما ناقشته شوشانا زوبوف في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة
"
(The Age of Surveillance Capitalism)،
حيث ترى أن شركات التكنولوجيا الكبرى لا تبيع فقط بياناتنا، بل تبيع سلوكنا المستقبلي،
عبر نمذجة عاداتنا الرقمية وتغذية رغبتنا في عدم الغياب. كل ضغطة إعجاب أو تعليق هي
جزء من هذا الاقتصاد النفسي الجديد، حيث يصبح الإنسان منتجًا ومستهلكًا في آن واحد،
دون أن يشعر.
هذا التوتر النفسي
ليس مجرّد حالة شخصية، بل تحوّل إلى بُنية اجتماعية تشمل كافة الأعمار والفئات. يشعر
الأطفال أن غيابهم عن التحديات الرقمية أو الألعاب الرائجة هو عزلة. وتخاف الأمهات
من أن يظهرن "خارج العصر" إن لم يشاركن لحظات أولادهن. أما الموظفون، فيتابعون
زملاءهم الذين يحضرون مؤتمرات أو يُمنحون ترقيات، فيعيشون قلقًا مهنيًا مموهًا تحت
ستار "المقارنة الطبيعية". إنه قلق بلا اسم واضح، لكنه يستنزف الطاقة، يخلق
نوعًا من التوتر الدائم، ويقوّض الشعور بالرضا.
في هذا السياق، لا
بد من الإشارة إلى الأثر النفسي الطويل الأمد لهذه الظاهرة. تؤكد دراسة نشرت في مجلة «Computers in Human Behavior»
" أجهزة الكمبيوتر في السلوك البشري " أن الاستخدام المكثف للسوشيال
ميديا لدى المراهقين، والمصحوب بشعور FOMO،
يرتبط بمستويات أعلى من الاكتئاب والقلق والعزلة الاجتماعية. كما أن تعاقب الصور
"المثالية" يصنع وهمًا بأن الآخرين يعيشون حياة أكثر إشراقًا، وهو ما أطلقت
عليه الكاتبة راشيل سيمون "الاستعراض الرقمي للسعادة".
ولأن الإنسان كائن
إخباري بطبعه، فإن أكثر ما يؤلمه هو أن يشعر بأنه خارج "خبر الآخرين"، لا
يملك فيها دورًا، أو لا يُستدعى للمشهد. ولكن ما لا يُدركه كثيرون أن تلك الأخبار مصنوعة
بعناية، يتم تحريرها كما يُحرر الإعلان، ويُقصّ منها ما لا يناسب "الصورة العامة".
في هذا المعنى، يتحول الـ FOMO من حالة نفسية إلى وهم بصري مركّب، حيث لا نشتاق للحقيقة بل لنسختها المنقحة.
ما الحل إذن؟ لعل الجواب
لا يكمن في قطع العلاقة مع التكنولوجيا، فهذا غير واقعي في عصر يعتمد فيه التفاعل الرقمي
على بنية تحتية شبه وجودية. لكن الوعي هو الخطوة الأولى: أن نُدرك أن الغياب ليس دائمًا
خسارة، وأن اللحظة التي نعيشها دون توثيق قد تكون أصدق من آلاف الصور. إن مقاومة هذا
الوهم تبدأ بإعادة تعريف الحضور، لا بوصفه "تفاعلًا إلكترونيًا"، بل باعتباره
وعيًا باللحظة، ومصالحة مع الذات، لا تخاف من الفوات، بل تحتفي بما هو كائن.
في النهاية، يمكن تشبيه
الخوف من الفوات بمرآة مكسورة، كلما نظرنا فيها رأينا شظايا من وجوه الآخرين، ولم نرَ
وجهنا الحقيقي. آن الأوان لأن نغلق تلك المرآة، ونسير في طرقات الحياة بعيون مفتوحة،
لا بهواتف مشرعة على قلق لا ينتهي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق