لا يزال البحث في الأدب يرزح تحت أثقال قديمة توارثتها الجامعات ودور النشر، حيث تتحول المعرفة إلى سلعة، والباحث إلى موظف داخل ماكينة بيروقراطية لا تترك له سوى فتات الحرية. في هذا السياق، يطل علينا بيورن-أولاف دوزو وفرانسوا بروفنزانو بمقال لا يخلو من الجدل، يفضح منطق النشر الورقي التقليدي، ويدعو بجرأة إلى إعادة التفكير في شرعية هذا النظام أمام الثورة الرقمية التي تهدد بزعزعة أركانه.
كثيرا ما تغنّت المؤسسات
الجامعية بشعارات الاستقلالية والحرية الأكاديمية. لكن الواقع يكشف أن هذه الاستقلالية
ليست سوى واجهة براقة تخفي خلفها ارتهانات متعددة: لسياسات التمويل، ولشبكات النفوذ،
ولمنطق السوق. الباحث في الأدب يجد نفسه بين خيارين أحلاهما مرّ: إما الانزواء في
"برج عاجي" بلا تأثير يُذكر، أو التحول إلى أداة في خدمة إملاءات خارجية،
سياسية كانت أو اقتصادية. وحتى عندما يختار بعضهم الانفتاح عبر ورشات الكتابة الإبداعية
أو المشاريع المشتركة، سرعان ما ينكشف الطابع النفعي الذي يحكمها.
المجلات العلمية، بما
هي معاقل شرعية أكاديمية، تمارس نوعاً من "الأبوية" على الباحثين. فهي تمنح
وسام الاعتراف أو تحجبه وفق معايير تبدو موضوعية لكنها محكومة بالهيمنة. الانتظار الطويل
على أبواب هذه المجلات يشبه طقساً عقابياً يعلّم الباحث الانضباط، بينما يُكافأ المطيعون
فقط بامتياز النشر. أما من يرفض هذه اللعبة فليس أمامه سوى النشر الذاتي أو الصمت.
هنا يصبح السؤال ملحّاً: أي علم هذا الذي يُقاس بمؤشرات بيروقراطية بدل أن يُقاس بثراء
الأسئلة وجدّة الأفكار؟
الورق ليس بريئاً،
والعلم ليس محايداً، والرقمية ليست خلاصاً مطلقاً. كل وسيط يحكمه خطاب وإيديولوجيا.
النشر الورقي يقدّس التقليد ويعيد إنتاج هرمية النخبة الأكاديمية. النشر العلمي يفرض
صرامة شكلية تقتل في كثير من الأحيان الحيوية النقدية. أما النشر الرقمي، الذي يُسوّق
كفضاء للحرية والانفتاح، فهو بدوره يحمل خطاباً تقنياً لا يخلو من إكراهات جديدة: منطق
الخوارزميات، اقتصاد الانتباه، واستبداد المنصات. وهنا تكمن المفارقة: هل نتحرر فعلاً
أم ندخل سجناً جديداً مزيناً بشاشات مضيئة؟
يدعو الكاتبان إلى
الاستثمار في النشر الإلكتروني كرهان لتحرير البحث الأدبي من ضيق الورق.
لا شك أن الرقمي يتيح
سرعة تداول النصوص، ويوسّع من قاعدة القراء، ويكسر الحواجز الجغرافية. لكنه يحمل معه أيضاً مخاطر
تسييل المعرفة وتحويلها إلى منتَج عابر، محكوم بمقاييس عدد النقرات والزيارات أكثر
من قيمتها الفكرية. الحرية الرقمية إذن ليست هدية مجانية، بل فضاء صراع جديد يحتاج
إلى يقظة نقدية حتى لا يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة في ثوب أكثر حداثة.
يبقى السؤال مفتوحاً:
هل نحن أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف البحث الأدبي، أم أننا بصدد إعادة تدوير القيود
القديمة داخل قوالب إلكترونية جديدة؟ المؤكد أن الورق لم يعد مقدساً، وأن الشرعية الأكاديمية
لم تعد حكراً على حفنة من المجلات المتحجرة. لكن المؤكد أيضاً أن الرقمية ليست طوباوية
ولا محايدة. بين قداسة الورق ووهم الحرية الرقمية، يظل مصير البحث الأدبي مرهوناً بقدرة
الباحثين على رفض الارتهان لأي سلطة، ورسم مسارات بديلة تليق بروح النقد والإبداع.
0 التعليقات:
إرسال تعليق