في عالم تتغير فيه مفاهيم السرد بسرعة، وتذوب فيه الحواجز التقليدية بين من يكتب ومن يقرأ، وبين من يبدع الصورة ومن يستهلكها، ظهرت القصة القصيرة التفاعلية كصيغة جديدة تقلب المعادلة. لم يعد النص حكراً على المؤلف، ولا الفيلم منتجاً نهائياً مغلقاً، بل صار الحكي فضاءً رحباً يشارك فيه الجمهور بقراراته، فيوجّه الأحداث ويصنع نهاياتها. إنها نقلة نوعية في فنون السرد تعيد صياغة العلاقة بين الإبداع والمتلقي.
لطالما اعتُبر القارئ
متلقياً سلبياً، يكتفي بمتابعة ما يقدمه الكاتب من حبكة ونهايات محددة مسبقاً. غير
أن القصة التفاعلية قلبت هذه المعادلة، إذ منحت الجمهور سلطة اتخاذ القرار، وسمحت له
بالتأثير في مسار الأحداث. هكذا يتبدل دور المتلقي من قارئ أو مشاهد عابر إلى شريك
في الإبداع، يعيش التجربة لا كرحلة جاهزة، بل كمغامرة يصوغ ملامحها بنفسه.
تجارب عالمية لافتة
شهدت العقود الأخيرة
نماذج متعددة لهذه الصيغة:
الروايات البصرية اليابانية
التي تمزج النصوص بالصور والخيارات السردية.
النص الفائق (Hypertext) الذي يتيح للقارئ الانتقال بين روابط متشعبة
كمتاهة بلا نهاية.
الألعاب الكلاسيكية
التفاعلية التي اعتمدت على إدخال الأوامر النصية.
وأخيراً، التجربة الأكثر
شهرة في الثقافة البصرية الحديثة: فيلم
“Black
Mirror: Bandersnatch” على منصة نتفليكس، حيث أصبح المشاهد يحدد مصير البطل ويختبر نهايات مختلفة.
لا يقتصر الأمر على
التجديد التقني، بل يتعداه إلى البعد الثقافي. فالقصة التفاعلية تعبّر عن تحولات عميقة
في علاقة الإنسان بالمعلومة والخيال. نحن أمام جيل لم يعد يرضى بالاستهلاك، بل يبحث
عن المشاركة وإعادة التشكيل. وهذا يفسر انجذاب الشباب إلى هذا النمط، لأنه ينسجم مع
منطق العالم الرقمي القائم على التفاعل والاختيار الفردي.
رغم أن هذه التجارب
ما تزال محدودة في العالم العربي، إلا أنها تطرح سؤالاً مهماً: هل يمكن أن يشكّل السرد
التفاعلي مدخلاً لإعادة إنعاش علاقة الأجيال الجديدة بالقراءة؟ يمكن تخيل قصص شعبية
أعيدت صياغتها لتُروى عبر تطبيقات تفاعلية، أو أعمال أدبية شبابية تُقدَّم كألعاب سردية،
أو حتى نصوص تاريخية تتحول إلى مغامرات حية تتيح للقارئ إعادة بناء الذاكرة.
إن القصة التفاعلية
هي تعبير عن تحوّل جذري في مفهوم الأدب والفن. إنها إعلان بأن السرد لم يعد حكراً على
المؤلف، بل أصبح ملكاً لجمهور يكتب ويعيد كتابة النص مع كل نقرة واختيار. ومن هنا،
فإن المستقبل قد يشهد ولادة أدب عربي رقمي تفاعلي، يزاوج بين التراث والابتكار، وبين
التقنية والخيال، ليضع القارئ العربي في قلب العملية الإبداعية لا على هامشها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق