الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 25، 2025

بيير أبيلار: الفيلسوف الذي تحدّى الميتافيزيقا الوسيطة: ترجمة عبده حقي


يُعدّ بيير أبيلار (1079 – 1142) واحدًا من أبرز المفكرين في الفلسفة المدرسية الأوروبية في العصور الوسطى، إذ جمع بين صرامة المنطق، وجرأة النقد، وعمق التفكير في القضايا الأخلاقية واللاهوتية. وقد خصصت له "الموسوعة الفلسفية لستانفورد" مقالة موسعة تعرض مساره الفكري، وتبرز إسهاماته في المنطق، واللغة، والأخلاق، واللاهوت، وتضعه في مواجهة مع التيارات التقليدية التي هيمنت على عصره.

خاض أبيلار سجالات فكرية كبرى حول مسألة الكليات (universalia)، وهي من أقدم الإشكالات الفلسفية الموروثة عن أفلاطون وأرسطو. فقد رفض المذهب الواقعي الذي يرى أنّ "الإنسانية" أو "الحيوانية" مثلًا كائنات حقيقية موجودة بذاتها، وأكد أنّها ليست سوى أسماء أو ألفاظ، أي "nomina". بهذا الموقف، انحاز أبيلار إلى اتجاه اسمه "الاسمية" أو "اللارَويّة"، معلنًا أنّ الكليات ليست سوى أدوات لغوية للتعبير عن المشترك بين الأفراد، لا كيانات مستقلة في الوجود. هذه الأطروحة شكّلت منعطفًا كبيرًا في تاريخ الفلسفة المدرسية، وفتحت الباب أمام مقاربات جديدة للواقع والمعرفة.

تميّز أبيلار بإسهاماته الرائدة في تطوير المنطق. فقد حاول أن يتجاوز حدود القياس الأرسطي، متوجهاً نحو ما يشبه المنطق الشرطي أو "المنطق الاقتراحي". ميّز بين مضمون القضية وصيغتها، وبين المعنى والقدوة  (assertio/interrogatio)، وبهذا قدّم تصورًا أكثر مرونة لتحليل العبارات الشرطية والاستدلالات المعقدة. هذه الإضافة جعلته أحد المؤسسين لما يمكن اعتباره إرهاصات "المنطق الحديث".

أولى أبيلار اهتمامًا بالغًا بالمسألة اللغوية، فرأى أنّ العلاقة بين الألفاظ والمعاني تقوم على تمييز جوهري بين الإشارة (significatio) والتسمية (nominatio). فاللغة لا تكشف عن وجود كيانات عقلية أو مجردات، بل تؤدي وظيفة تداولية تُحيل إلى الواقع. كما تبنّى موقفًا "تبسيطيًا" من الحقيقة: فالقول يكون صادقًا إذا كانت الأشياء على نحو ما يقرّره القول، دون الحاجة إلى افتراض وجود كيان مجرد اسمه "الحقيقة". هنا يلمس الباحث كيف سبق أبيلار في بعض جوانب فكره ما ستعيد الفلسفة التحليلية الحديثة اكتشافه بعد قرون.

رفض أبيلار نظرية "الصور الذهنية" التي كانت ترى أنّ الفكر يقوم على تمثل صور مشابهة للأشياء في الذهن. واقترح بدلًا من ذلك مقاربة عُرفت بالنظرية "الظرفية" أو "الأدْوَريّة"، حيث التفكير ليس فيض صور، بل هو نشاط قصدي مباشر: العقل يفكر عن شيء، وهذه العلاقة القصدية بدئية لا تحتاج إلى اختزال. في هذا الطرح نلمح بصمة مبكرة لمفهوم "القصدية" الذي سيُصبح أساسًا في الفلسفة الحديثة مع برنتانو وهوسرل.

يُعتبر أبيلار من أوائل المنظّرين لفكرة أنّ النية هي أساس القيمة الأخلاقية. فهو يرى أنّ الفعل لا يُقيَّم بآثاره أو نتائجه، بل بالقصْد الذي دفع إليه. فإذا كان الدافع صادقًا ونبيلًا، كان الفعل محمودًا حتى وإن لم يؤت ثماره. غير أنّ هذا التصور يثير إشكاليات: فكيف يُحكم على أفعال البشر في المجتمع إذا كان الباطن هو الفيصل؟ وقد أجاب أبيلار بأنّ الحكم الأخلاقي الإلهي يظل سرًّا لا يعلمه إلا الله، بينما تبقى القوانين البشرية ذات وظيفة تنظيمية لردع الشرور وحماية النظام الاجتماعي.

في اللاهوت، تميّز أبيلار برغبته في إدخال العقل في قراءة النصوص المقدسة. فقد دعا إلى حوار دائم بين العقل والسلطة الدينية، مع إقراره بأنّ العقل لا يستطيع تفسير كل أسرار الإيمان. ومن أشهر أعماله في هذا السياق كتاب "نعم ولا" (Sic et Non)، حيث جمع نصوصًا متعارضة من آباء الكنيسة وطرحها بلا حكم نهائي، ليترك للقارئ مهمة التفكر في كيفية التوفيق بينها. هذا المنهج الجدلي أثار حفيظة شخصيات مثل برنار دو كليرفو، الذي اتهمه بالتجرؤ على سلطة الكنيسة. ومع ذلك، فقد أسّس أبيلار لمسار نقدي سيستمر لاحقًا مع توما الأكويني وغيرهم من فلاسفة اللاهوت المدرسي.

لا يقتصر حضور أبيلار على سجالات الفلسفة والمنطق، بل يمتد إلى الجانب الإنساني من خلال رسائله الشهيرة مع هيلواز، التي تكشف عن شخصية مثقلة بالمعاناة ولكنها لا تتخلى عن الفكر والبحث. فقد جمع بين الفيلسوف الجريء والمحب التراجيدي، بين الباحث عن الحقيقة والإنسان الذي دفع ثمن أفكاره وحياته الخاصة.

خاتمة

تكشف دراسة فكر بيير أبيلار عن عقلية سبقت عصرها، إذ قدّم مقاربات في اللغة والمنطق والأخلاق لا تزال موضوع بحث حديث. لقد مثّل لحظة انتقالية في الفلسفة الأوروبية، حيث بدأ العقل يطالب بحقه في مساءلة النصوص والسلطات، وحيث أصبحت النية الداخلية معيارًا جوهريًا في الفعل الإنساني. وهكذا، يظل أبيلار شاهدًا على أنّ الفلسفة ليست مجرد تنظير، بل مغامرة وجودية تنسج بين الفكر والحياة خيطًا لا ينفصم.

0 التعليقات: