الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 25، 2025

الإيثار وانتقاء الجماعة: بين أنانية الفرد وأفق الأخلاق: عبده حقي


يبدو أن سؤال الإيثار يضعنا دوماً أمام مفارقة: كيف يمكن للإنسان أن يضحّي بمصلحته المباشرة من أجل الآخرين، في حين أن كل منطق البقاء يفرض على الكائن الحي أن يحمي ذاته قبل أي شيء آخر؟ هذه المفارقة التي حيّرت الفلاسفة والعلماء معاً لا تنتمي فقط إلى سجالات البيولوجيا التطورية، بل تمسّ جوهر التفكير الأخلاقي، لأنها تحيلنا إلى علاقة الفرد بالجماعة، وإلى الحدود الدقيقة بين الأنانية والغيرية.

الإيثار في صورته الأخلاقية هو موقف من العالم. عندما يمدّ الإنسان يده لمساعدة آخر وهو يعلم أنّه قد يخسر شيئاً من ذاته، فإن ما يخسره مادياً يعوّضه معنوياً بانتماء أوسع، يتجاوز ضيق الفردانية إلى رحابة الكونية. بهذا المعنى، يصبح الإيثار تعبيراً عن وعي بالانتماء، لا فقط إلى جماعة بشرية محددة، بل إلى شرط إنساني مشترك.

لقد تساءل الفلاسفة منذ القدم: هل يندفع الإنسان نحو الخير لأنه خير في ذاته، أم لأنه يجد في الخير طريقاً إلى مصلحته الأبعد؟ لقد كان أرسطو يرى أن الفضيلة لا تكتمل إلا حين يقترن السلوك الفردي بالصالح العام، فيما اعتبر كانط أن الإيثار الحقيقي لا يقوم على منفعة أو عاطفة بل على مبدأ عقلي ملزم: "افعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص غيرك كغاية لا كوسيلة". أما في العصر الحديث، فقد أضفى جان جاك روسو بُعداً سياسياً على الإيثار، حين رأى أن "الإرادة العامة" لا تُبنى إلا على استعداد الأفراد للتضحية بجزء من مصالحهم الخاصة من أجل الصالح المشترك.

هذه الرؤى المختلفة تكشف أن الإيثار لم يُفهم يوماً كضعف أو سذاجة، بل كبنية أخلاقية تعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والجماعة. فالمجتمع الذي يقوم على الأنا المغلقة لا يمكن أن يؤسس عدالة أو تضامناً، بينما المجتمع الذي يجد في الإيثار قيمة عليا، يفتح الطريق أمام معنى أعمق للحرية، حرية مرتبطة بالمسؤولية تجاه الآخر.

إن التفكير في الإيثار خارج إطاره البيولوجي يجعلنا نلمس أبعاده الوجودية. فالإنسان الذي يختار أن يكون مع الآخرين، حتى على حساب ذاته، يكتب لنفسه قصة مختلفة عن مجرد البقاء. إنه يختار أن يعيش في أفق المعنى، لا في حدود الغريزة وحدها. وربما لهذا السبب ظل الإيثار، على الرغم من صعوبته وتناقضاته، ركناً أساسياً في الفلسفات الأخلاقية الكبرى، من الديانات السماوية إلى الفلسفات الإنسانية الحديثة.

يبقى السؤال إذن: هل الإيثار مجرد حالة استثنائية يواجه بها الفرد المواقف الحرجة، أم هو إمكانية كامنة في كل إنسان؟ لعل الجواب يكمن في النظر إلى الإيثار لا كفضيلة تخص القلّة، بل كبذرة أخلاقية مشتركة، تظهر في لحظات الأزمات كما في تفاصيل الحياة اليومية. وما دام الإنسان يعيش في جماعة، وما دامت الجماعة لا تستقيم إلا بتوازن المصالح، فإن الإيثار سيظل شاهداً على أن الأخلاق ليست ترفاً، بل شرطاً من شروط إنسانيتنا.

0 التعليقات: