لقد دخل السرد الروائي اليوم فضاءً إبداعيا جديدًا يتعلق الأمر بالواقع الافتراضي، حيث يصبح القارئ/المتلقي مشاركًا فعليًا في صناعة الحكاية بدل أن يكون مجرد متفرج. هذا التحول يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الرواية، وحول ما إذا كانت هذه الوسائط الجديدة قادرة على إعادة صياغة علاقة الإنسان بالنصوص السردية كما فعلت الطباعة في القرن الخامس عشر أو السينما في القرن العشرين.
الواقع الافتراضي يقدم للروائي إمكانات غير مسبوقة. فالنص لم يعد مجرد تسلسل من الجمل والفقرات، بل تحول إلى بيئة مكانية وزمنية يمكن للقارئ أن يتجول فيها، يتفاعل مع شخصياتها، ويغيّر مساراتها. يشبه هذا التحول ما وصفه ميخائيل باختين في مفهوم "الكرونوتوب" (الزمان/المكان الروائي)، لكن هنا يتحقق الكرونوتوب بصورة ملموسة ثلاثية الأبعاد تجعل القارئ يعيش اللحظة بدل أن يتخيلها فقط. أعمال تجريبية مثل مشروع VRwandlung المستلهم من "التحول" لفرانز كافكا، أو تجارب الواقع الافتراضي المبنية على "أليس في بلاد العجائب"، تكشف كيف يمكن لنصوص كلاسيكية أن تُعاد كتابتها في بيئة جديدة حيث النص يصبح فضاءً يمكن التنقل فيه.
تكمن قوة الرواية الافتراضية
في قدرتها على الغمر الحسي الكامل. فالقارئ هنا يستخدم الحواس مجتمعة: الرؤية، السمع،
وأحيانًا اللمس عبر أدوات التحفيز الحسي. هذا الاندماج يغيّر جذريًا مفهوم التلقي.
في النقد الأدبي الكلاسيكي كان القارئ هو "الآخر الغائب"، بينما في الرواية
الافتراضية يصبح القارئ حاضرًا في صميم العمل، يشارك في بنائه وربما يغيّر مجراه. يشير
النقاد إلى أن هذا الشكل الجديد يقترب من "اللعب السردي" (narrative gameplay)، وهو مفهوم ناقشته دراسات
الألعاب الرقمية مثل كتاب "Narrative as Virtual Reality" لماري-لور
رايان، الذي يوضح كيف تتقاطع حدود الأدب مع تقنيات المحاكاة الرقمية.
أثر الواقع الافتراضي
على شكل الرواية
قد يُقال إن هذا التحول
يهدد الرواية التقليدية ويمحو الحدود بين الأدب والفنون التكنولوجية. لكن يمكن النظر
إليه على أنه استمرار لتاريخ طويل من التحولات السردية: من الشفوية إلى المخطوط، ومن
المخطوط إلى المطبعة، ومن المطبعة إلى الوسائط الرقمية. كل مرحلة أعادت تشكيل الرواية
دون أن تلغي سابقتها. الرواية الافتراضية قد لا تحل محل الرواية المطبوعة، لكنها تفتح
أفقًا جديدًا يتلاءم مع جيل يتعامل مع النصوص كما يتعامل مع الألعاب الإلكترونية، حيث
المشاركة والحرية والاحتمالات المتعددة.
التحديات والآفاق المستقبلية
رغم هذه الإمكانات،
تواجه الرواية الافتراضية تحديات كبيرة. أولها التكلفة العالية لإنتاج نصوص غامرة،
حيث يتطلب الأمر فرقًا من المبرمجين والمصممين والفنانين، وهو ما قد يحصر التجارب في
نطاق ضيق. ثانيها البنية النقدية: فما زال النقاد والأكاديميون يفتقرون إلى أدوات منهجية
لتحليل هذه الأعمال، كما أشار باحثون في دراسات الأدب الرقمي مثل كاثرين هايلز في كتابها
Electronic
Literature: New Horizons for the Literary. ثالثها
المخاوف الثقافية، إذ يرى بعض النقاد أن الغمر التكنولوجي قد يختزل الأدب إلى تجربة
حسية سطحية تفقد العمق الرمزي والتأملي الذي تميز به النص الروائي.
ومع ذلك، فإن انفتاح
الرواية على فضاءات الواقع الافتراضي يعكس حاجة إنسان اليوم إلى نصوص تواكب تحولات
وعيه الرقمي. وربما يكون المستقبل مزيجًا من الورقي والرقمي والافتراضي، حيث يظل الأدب
ـ كما كان دائمًا ـ مرآة للتحولات الكبرى في الحضارة الإنسانية، وحقلًا لتجريب أشكال
جديدة من الحكاية التي تشبه الحياة نفسها في تعدديتها وتشابك مساراتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق