الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أكتوبر 09، 2025

نحو فهم نقدي لظاهرة “التخصيص الفائق” في استهلاك الأخبار الرقمية: عبده حقي

 


أصبحت عملية استهلاك الأخبار أكثر تشابكاً من أي وقت مضى. لم يعد القارئ مجرد متلقٍ سلبي للمعلومة، بل صار جزءاً من شبكةٍ من الخوارزميات التي تتغذّى على سلوكاته الرقمية لتعيد صياغة ما يقرأه ويراه. هذه الظاهرة، التي يُطلق عليها اليوم “التخصيص الفائق” أو Hyper-Personalization، تمثل أحد أهم التحولات في تاريخ الإعلام المعاصر، إذ تنقل العلاقة بين الصحافة والجمهور من “التعميم” إلى “التفصيل”، ومن “الرسالة الجماعية” إلى “المرآة الفردية.

تقوم فكرة التخصيص الفائق على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعلم الآلة، وتحليل البيانات الضخمة لتقديم محتوى يتناسب بدقة مع اهتمامات كل مستخدم. فبمجرد أن يقرأ الفرد مقالاً سياسياً أو يشاهد تقريراً اقتصادياً، تبدأ الخوارزميات بتسجيل أنماط اهتمامه، لتقترح لاحقاً محتوى مشابهاً أو أكثر تطرفاً. وهكذا تتشكل “فقاعة معرفية” تحيط بالمستخدم، تمنحه شعوراً بالانتماء والتفهم، لكنها في الوقت ذاته تعزله عن التنوع الحقيقي للآراء. كما يقول إيلي باريزر في كتابه  The Filter Bubble (2011)، الخطر ليس أن تُحرم من المعلومات، بل أن تُغذى فقط بما تريد أن تسمعه.

من الناحية الإيجابية، يقدّم هذا التخصيص نوعاً من “الديمقراطية الإعلامية” الجديدة، حيث يحصل كل فرد على محتوى يناسبه زمنياً وثقافياً. الصحف الكبرى مثل

 The New York Times وThe Guardian طورت خوارزميات توصية تُراعي الجغرافيا واللغة والسياق الثقافي، بحيث يتلقى القارئ في الرباط أو مراكش أخباراً تختلف عمّا يتلقاه نظيره في لندن أو نيويورك. هذا التكييف السياقي يسهم في رفع معدلات التفاعل، ويزيد من فرص القراءة العميقة في مواضيع كانت في السابق تمر دون انتباه.

لكن الوجه الآخر لهذه التقنية أكثر تعقيداً وخطورة. فالتخصيص الفائق لا يكتفي بتلبية احتياجات القارئ، بل يعيد تشكيلها. مع مرور الوقت، تتحول الخوارزمية من أداة توصية إلى “مُبرمجٍ ثقافي” يقرر ما يستحق أن يُرى وما يُستبعد. وتصبح الحقيقة ذات طابع نسبي، تُنتج وفقاً لخريطة الاهتمامات المرسومة رقمياً. وقد أظهرت دراسة لجامعة أكسفورد (2023) أن 62٪ من المستخدمين في أوروبا يتلقون أخبارهم من مصادر رقمية مفلترة بخوارزميات توصية، ما يؤدي إلى ارتفاع حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي.

إن العلاقة بين الإنسان والخوارزمية هنا ليست بريئة. فكلما زاد “التخصيص”، تناقص “الفضاء العام” المشترك الذي كان يجمع المواطنين حول سرديات جماعية. الفيلسوف يورغن هابرماس، في تحليله لـ “الفضاء العمومي”، يرى أن الديمقراطية تحتاج إلى مساحات مشتركة للنقاش والتفاعل. غير أن التخصيص الفائق يميل إلى تفتيت هذا الفضاء إلى جزرٍ رقمية صغيرة، حيث يعيش كل فرد في “عالمه المعلوماتي الخاص”، أشبه بمرآةٍ تعكس ذاته لا الواقع. وكأن الإعلام لم يعد نافذة على العالم، بل نافذة على “أنا الرقمية.

يضاف إلى ذلك بُعد اقتصادي خفي: فكل تفاعل، وكل نقرة، هي عملة تُستثمر في سوق الإعلانات. خوارزميات التخصيص لا تعمل من أجل المعرفة بل من أجل “الانتباه”، كما يوضح شوشانا زوبوف في عصر الرأسمالية المراقِبة (2019). يتم تحويل سلوك المستخدم إلى بيانات تجارية تُباع وتُشترى، فيتحول القارئ من مواطنٍ يسعى للفهم إلى منتَجٍ يُقاس بقيمة نقراته.

أما في السياق العربي والمغربي، فإن التخصيص الفائق يحمل إمكانات مزدوجة. فمن جهة، يمكنه أن يفتح المجال أمام الإعلام المحلي لتقديم محتوى موجه بدقة إلى الجمهور، بلغةٍ وأسلوبٍ يعكسان هويته الثقافية. ومن جهة أخرى، يهدد بتكريس الانغلاق والتطرف المعلوماتي، خاصة في ظل غياب ثقافة التفكير النقدي وضعف التربية الإعلامية الرقمية. وهنا تبرز الحاجة إلى سياسات عمومية تُوازن بين حرية الابتكار وحماية المجال العمومي من التلاعب الخوارزمي.

في النهاية، يمكن القول إن “التخصيص الفائق” ليس مجرد تطور تقني، بل تحوّل معرفي وأخلاقي في جوهره. إنّه يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمعلومة، بين الصحافة والوعي الجمعي، بين الحرية والتوجيه الخفي. والمفارقة الكبرى أن هذه التقنيات التي وُلدت لتقربنا من الحقيقة، قد تكون – إن لم تُضبط أخلاقياً – أكثر الأدوات قدرة على تشويهها. فكما أن المرآة تُظهر الملامح بوضوحٍ مفرط، قد تُخفي عمق الوجه الإنساني خلف لمعانها البارد.

0 التعليقات: