الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، نوفمبر 06، 2025

"الأَنَا المُتَعَدِّدُ الوُجُوهِ وَلِي وَجْهٌ وَاحِدٌ" نص سردي

 


لِيَ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا أَعْرِفُ أَيًّا مِنْهَا يَنْظُرُ إِلَيَّ حِينَ أَعْبُرُ الْمِرْآةَ. كُلُّ وَجْهٍ يَقُولُ: أَنَا أَنْتَ، فَأُصَدِّقُهُ مُؤَقَّتًا، ثُمَّ أَمْضِي كَمَنْ يَجُرُّ سَلِيلًا مِنْ أَقْنِعَةٍ شَهِدَتْ مَوَالِيدَهُ الْخَفِيَّةَ. وَلَكِنِّي، فِي أَعْمَاقِي، أَعْرِفُ أَنَّ لِي وَجْهًا وَاحِدًا يُخْفِي عَنِّي مَا يَقُولُهُ الْكُلُّ: أَنَا لَسْتُ إِلَّا ظِلًّا يَتَجَدَّدُ كَيْ يَبْقَى.

وَأَقُولُ: أَنَا الَّذِي يَخَافُ ظِلَّهُ حِينَ يَطُولُ، وَأَنَا الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَى خُطُوَاتِهِ وَهِيَ تَتَقَاسَمُ الْحَدِيثَ مَعَ الطُّرُقِ. أَنَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنِّي رَجُلٌ يَتَجَمَّلُ بِالصَّبْرِ، وَآخَرُ يَتَجَمَّلُ بِالْخَوْفِ، وَثَالِثٌ يُهَذِّبُ حُزْنَهُ لِيُشْبِهَ الشِّعْرَ. وَمَعَ ذٰلِكَ أَبْقَى أَنَا الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، كَأَنَّنِي نَبْضَةٌ تُقَلِّدُ نَفْسَهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.

وَأَقُولُ: لِيَ فِي الدَّاخِلِ مَلِكٌ مَهْزُومٌ وَمَلِكٌ يَفُوزُ بِكُلِّ هَزِيمَةٍ. لِيَ صَاحِبٌ يُهَنِّئُنِي عَلَى النِّجَاةِ، وَصَاحِبٌ آخَرُ يَذْهَبُ بِي إِلَى الْهَاوِيَةِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ يَبْتَسِمُ الظَّلَامُ. وَلَكِنِّي فِي النِّهَايَةِ أَجْمَعُهُمْ كَالْحُرُوفِ حَوْلَ لَفْظٍ وَاحِدٍ: هٰذَا أَنَا… وَلَوْ تَفَرَّقْتُ.

وَأَقُولُ: أَنَا الْقَاتِلُ الَّذِي يَحْفَظُ دَمَعَتَهُ فِي جَيْبِهِ، وَأَنَا الْمَقْتُولُ الَّذِي يَنْهَضُ مِنْ تَابُوتِهِ لِيَعْتَذِرَ. أَنَا الَّذِي يَمْشِي فِي جَنَازَتِهِ وَيُهَلِّلُ لِلْأَشْجَارِ، كَأَنَّ الْفَنَاءَ سَرِيرٌ يُهَيِّئُ لَنَا نَوْمًا أَعْمَقَ. وَأَقُولُ أَيْضًا: لَا أُصَدِّقُ كُلَّ مَا أَقُولُ، لٰكِنِّي أُصَدِّقُ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْكَلَامِ.

وَأَقُولُ: أَنَا مَنْ فَقَدَ وَجْهَهُ يَوْمًا فِي زِحَامٍ، فَأَعَادَتْهُ لِيَ الرِّيحُ وَهِيَ تَمْسَحُ غُبَارَ الْمَاضِي. أَنَا الَّذِي يُجَرِّبُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا كَمَنْ يَتَفَقَّدُ مَنْزِلًا قَدِيمًا وَجَدَ الأَثَرَ فِيهِ أَبْلَغَ مِنَ الْحَاضِرِ.

وَأَقُولُ: كُلَّمَا اخْتَبَرْتُ وَجْهًا جَدِيدًا، تَعَلَّمْتُ كَيْفَ أَحْفَظُ وَجْهِي الْوَاحِدَ مِنَ التَّشْوِيهِ. وَكُلَّمَا أَخْلَصْتُ لِقِصَّتِي، نَبَتَتْ لِيَ قِصَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا تُقَبِّلُنِي، وَالأُخْرَى تُوَبِّخُنِي. وَمَعَ ذٰلِكَ أُمْسِكُ بِالْخَيْطِ الْخَفِيِّ الَّذِي يَرْبُطُهُمْ فِي نَغْمَةٍ وَاحِدَةٍ تَقُولُ: هٰذَا أَنْتَ، وَلَوْ أَحْيَيْتَ عَالَمَيْنِ.

وَأَقُولُ: أَنَا الَّذِي يَنْظُرُ عَبْرَ أَشْبَاحِهِ، لَا لِيَعْرِفَهَا، بَلْ لِيَرَاهُ هُوَ فِيهَا. لِيَ وَجْهٌ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الْيَأْسِ، وَآخَرُ يَتَعَلَّمُ لُغَةَ الرَّجَاءِ، وَثَالِثٌ يَحْفَظُ لِيَ الصَّمْتَ كَأَنَّهُ نَبِيٌّ شَرِيدٌ.

وَفِي الْخِتَامِ أَقُولُ: لِي وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ، نَعَمْ، لٰكِنَّهَا كُلَّهَا تَنْتَهِي إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يَتَخَلَّى عَنِّي، وَلَا أَتَخَلَّى عَنْهُ. وَجْهٌ يَعْرِفُ أَنَّ الْكَثْرَةَ سَرَابٌ يَحْرُسُ الْوَحْدَةَ، وَأَنَّنِي لَوْ أَضَعْتُهُ، لَأَضَعْتُ الطَّرِيقَ كُلَّهُ. فَأَنَا الْمُتَعَدِّدُ، وَلٰكِنَّنِي أَنْطَلِقُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ… يُشْبِهُنِي كُلَّمَا هَرَبْتُ مِنِّي.

تَوقيع: عَبْدُهُ حَقِي

0 التعليقات: