الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 11، 2025

الصحراء المغربية بين الضجيج الدعائي ومسار الشرعية الأممية: عبده حقي


لم يكن غريباً أن تتكاثر، خلال الأيام القليلة الماضية، أصوات وعناوين وتقارير صادرة عن منصات تُعرَف بانتمائها الواضح لأجهزة الدعاية الانفصالية، تعيد إنتاج الخطاب ذاته الذي ظلّ يتردد منذ السبعينيات، دون أن يكلّ أو يملّ من تكرار قاموس "الاحتلال"، و"الانتهاكات الجسيمة"، و"التدهور السريع لحقوق الإنسان في الصحراء الغربية". وعلى الرغم من أن هذه اللغة المتخشبة لم تعد تقنع حتى جمهورها التقليدي، فإنها تجد في المناسبات الدولية—مثل اليوم العالمي لحقوق الإنسان—نافذة لإحياء خطاب مهتزّ، وخيطاً واهناً للتشبث بسردية لم تعد قادرة على الوقوف في وجه التحولات الكبرى التي يعرفها هذا الملف، سواء على مستوى مجلس الأمن أو المواقف الدولية أو الدينامية التنموية المتسارعة في الأقاليم الجنوبية للمملكة.

لقد جاءت تصريحات "المنظمات الصحراوية" حول ما وصفته بـ"التدهور السريع" لوضعية حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية في توقيت بالغ الحساسية؛ إذ تزامنت مع دخول القرار الأممي رقم 2797 لسنة 2025 حيّز التنفيذ السياسي، وهو القرار الذي وضع، بوضوح غير مسبوق، حدّاً لتأرجح الأمم المتحدة بين مقاربات متباينة، واعتمد لأول مرة المبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها الإطار الواقعي والنهائي لإنهاء النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. هذا التحول الأممي لم يكن مجرد لحظة بيروقراطية في أروقة نيويورك، بل كان بمثابة صفّارة النهاية لصراع دام خمسين عاماً، وأصبح معها كل خطاب انفصالي يشعر بأن الأرض تهتزّ تحت قدميه.

وهنا بالضبط يمكن فهم لماذا عادت بعض المواقع، مثل "صحارى برس" و"واص"، إلى رفع مستوى خطابها إلى أقصى درجات التجييش، محاولةً تصوير الأقاليم الجنوبية كفضاء مغلق تمارس فيه الدولة المغربية "قمعاً ممنهجاً". غير أن هذه الادعاءات تصطدم بحقائق ملموسة على الأرض: انتخابات محلية وجهوية، استثمارات استراتيجية، مشاريع للطاقة الريحية والشمسية، موانئ عملاقة، طرق حديثة، جامعات، مراكز بحث، وطفرة اقتصادية جعلت من العيون والداخلة مدينتين محوريتين في بوابة المغرب نحو إفريقيا. كل هذه المعطيات تجعل أي حديث عن "التدهور السريع" أقرب إلى كتابة مقال في فراغ، أو محاولة لتزييف لوحة مكتملة الألوان بفرشاة مهترئة.

وفي الواقع، فإن هذا النوع من التقارير لا يستمد قوته من حقائق موضوعية، بل من تكرار العبارات ذاتها التي تُكتب في مكاتب مغلقة خارج المغرب، أو تُلقّن في مخيمات تندوف لمنظمات لا صفة قانونية لها سوى أنها تحمل أسماء طويلة تختبئ خلفها إرادة سياسية موجهة. وعندما يدّعي تقرير صادر في 10 ديسمبر أن "الانتهاكات الجسيمة" تتصاعد في "الجزء المحتل"، فإن القارئ المتخصص يعرف أن هذا الأسلوب ليس إلا واجهة بلاغية لتغطية مأزق سياسي عميق: فبعد القرار الأممي الأخير، لم يعد هناك مجال للمراهنة على خطاب تقرير المصير بالشكل القديم، ولا على فكرة الاستفتاء، ولا حتى على الوعود الخشبية التي ظلت البوليساريو تلوّح بها منذ عقود.

ولعلّ المقال الذي نشره موقع ROAPE اليساري، والذي حمل عنواناً استفزازياً هو "كيف خانت الأمم المتحدة عملية إنهاء الاستعمار"، يكشف بوضوح حجم الأزمة التي يعيشها الخطاب الانفصالي خارج الإقليم. فالمقال يتهم مجلس الأمن نفسه بالخيانة، ويتهم الأمم المتحدة بالتراجع عن "عملية تصفية الاستعمار"، متجاهلاً أن تلك العملية تغيرت قواعدها منذ أكثر من عقدين، وأن المجتمع الدولي لم يعد يتعامل مع الصحراء كقضية تصفية استعمار، بل كقضية نزاع إقليمي يحتاج إلى حل سياسي واقعي في إطار احترام سيادة الدول. ما أغفله المقال عمداً هو أن الأمم المتحدة—ومن خلال القرار 2797—لم تُدن المغرب، ولم تُحمّله مسؤولية "الاحتلال"، بل اعتبرت الحكم الذاتي المقترح حلاً ناضجاً ومنسجماً مع المعايير الدولية المعتمدة في حلّ النزاعات المشابهة.

إنّ جذور تغيّر الموقف الأممي لا تكمن فقط في قوة الحجة المغربية أو في استقرار مؤسسات الدولة، بل في انهيار النموذج الآخر، نموذج البوليساريو، الذي بات مكشوفاً أمام العالم أكثر من أي وقت مضى. فبينما تستمر التقارير الانفصالية في الحديث عن حقوق الإنسان في الصحراء، يتجاهل الخطاب نفسه ما يحدث في تندوف: غياب تام للإحصاء الأممي، احتجاز آلاف العائلات دون حرية تنقل، غياب أي مؤسسات تمثيلية، تجنيد الأطفال، تحويل المساعدات الإنسانية إلى مورد اقتصادي، وانتهاكات موثّقة شهدت عليها منظمات دولية معتبرة. هذا التناقض الأخلاقي الصارخ بين ما يُروّج وما يجري فعلاً أصبح يضع الحركة الانفصالية في موقع الدفاع، وهو ما يفسّر ارتفاع منسوب التصعيد الدعائي خلال الأشهر الأخيرة.

ومع ذلك، فإن لحظة 2025 ليست مجرد صراع خطابات، بل هي نقطة انعطاف حقيقية لمسار النزاع على الصحراء. فاليوم، لم تعد القضية محصورة بين المغرب والبوليساريو، بل أصبحت مرتبطة بإستراتيجية المغرب الإفريقية، وبمشاريعه الضخمة التي تربط الأطلسي بإفريقيا، وبثقة دولية تتجدد عاماً بعد عام في قدرة المملكة على ضمان الاستقرار في منطقة مضطربة. فمن يزور العيون أو الداخلة يرى واقعاً لا يمكن لأي بيان انفصالي أن يطمسه: مطارات دولية حديثة، مشاريع سياحية، مناطق صناعية، ومدن جديدة ترتفع طوابقها مثل صفحات كتاب يُكتب بلا توقف.

ولعلّ القارئ الذي يتتبّع هذا الملف يدرك أن المغرب، منذ طرح مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، لم يعتبرها سقفاً نهائياً للحل فحسب، بل اعتبرها أيضاً مدخلاً لتطوير نموذج اقتصادي وسياسي في أقاليمه الجنوبية، نموذج يزاوج بين الخصوصية الثقافية والانفتاح على الاقتصاد العالمي، وبين تعزيز الهوية الوطنية وتوسيع صلاحيات المجالس المنتخبة. هذا المشروع الذي ترجمته مشاريع بنيوية كبرى جعل من الصحراء فضاءً للتحول وليس للتوتر، وحوّلها من ورقة نزاع إلى مجال واعد للاستثمار والاندماج الإقليمي.

وإذا كان خصوم المغرب يصرّون على قراءة الأوضاع الحقوقية في الأقاليم الجنوبية بمعزل عن السياق العام، فإن المقاربة الموضوعية تقتضي قراءة ما يجري داخل تندوف أيضاً، حيث لا توجد محاكم مستقلة، ولا إعلام حر، ولا جمعيات مستقلة، ولا مؤسسات انتخابية، ولا أي أفق سياسي. وعندما تعلن "جمعية حقوق الإنسان الصحراوية" أن الوضع يتدهور في "الجزء المحتل"، فإن السؤال الأخلاقي الذي يطرحه أي مراقب نزيه هو: لماذا لا تتحدث هذه الجمعية عن الوضع في المخيمات؟ لماذا لا تسجل انتهاكات التجنيد القسري؟ أو حرمان السكان من وثائق الهوية؟ أو احتجاز المساعدات؟ أم أن الحديث عن هذه الملفات سيكون بمثابة اعتراف ضمني بأن المشكلة ليست في العيون أو السمارة، بل في تندوف، حيث لا دولة ولا سيادة ولا قانون؟

هذا التفاوت في الخطاب يكشف أن الهدف الحقيقي لهذه الحملات ليس الحقوق ولا الحريات، بل محاولة استباق التحول السياسي الجديد من خلال خلق ضجيج إعلامي قد يوهم بعض المتابعين غير المتخصصين بأن الوضع في الصحراء "قابل للاشتعال". غير أن الواقع ذاته يثبت العكس تماماً: فالمغرب لا يدافع عن الصحراء فقط لأنها جزء من ترابه الوطني، بل لأنه يرى فيها امتداداً لمشروعه التنموي والديبلوماسي في إفريقيا. وما مشروع الربط الطاقي، والميناء الأطلسي في الداخلة، وبوابة التجارة الإفريقية، إلا شواهد على رؤية استراتيجية طويلة المدى، تتجاوز حدود النزاع القديم، وترسم ملامح مغرب جديد ينفتح بثقة نحو عمقه القاري.

لقد أثبتت السنوات الماضية أن الدبلوماسية المغربية ليست دبلوماسية ردود أفعال، بل دبلوماسية تراكم وصبر وحكمة، تعرف جيداً متى تتحدث ومتى تصمت، ومتى تترك الحقائق الاقتصادية والسياسية تتكلم نيابة عنها. ولهذا بالضبط، فإن كثيراً من الدول التي كانت تتخذ مواقف رمادية أو متحفظة، بدأت تميل تدريجياً إلى دعم مقاربة الحكم الذاتي. فالسؤال الذي يطرحه المجتمع الدولي اليوم لم يعد: "ما هو الحل؟"، بل: "أي حلّ هي الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق؟". والإجابة أصبحت واضحة: المبادرة المغربية.

إنّ من يتابع اليوم الحملات الإعلامية التي تتكرر كلما اقترب موعد جلسة لمجلس الأمن، أو كلما صدر قرار أممي جديد، أو كلما تطورت مشاريع التنمية في الصحراء، يدرك أن هذه الحملات ليست سوى ردود أفعال سياسية على نجاح النموذج المغربي. فالمنطقة التي يسعى البعض إلى تصويرها كفضاء خاضع لـ"الاحتلال" هي في الحقيقة من أكثر المناطق استقراراً وتنمية في شمال إفريقيا، في وقت تعيش فيه المخيمات حالة انسداد خانق، يعكسها تزايد حالات الهجرة، والانشقاقات السياسية داخل جبهة البوليساريو، وفشلها في تقديم أي رؤية مستقبلية لأجيال كاملة ولدت ونشأت في الخيام دون أفق واضح.

إن لحظة 2025 ليست مجرد محطة عابرة، بل هي نقطة استقرار لحسم سياسي استغرق عقوداً. ومع صدور قرار مجلس الأمن الأخير، أصبح واضحاً أن الشرعية الدولية تميل بشكل متسق ومتواصل نحو المغرب. وما تبقى من خطاب انفصالي ليس سوى محاولة لإعادة تدوير سرديات قديمة في عالم تغيرت قواعده بالكامل.

في النهاية، يبقى السؤال الحقيقي هو: هل يستطيع الخطاب الانفصالي أن يقدّم بديلاً حقيقياً؟ هل يملك رؤية اقتصادية؟ مشروعاً سياسياً؟ آلية للتعايش؟ أم أنه مجرد خطاب يقتات على الفراغ، وعلى الخوف، وعلى التعلق بماضٍ انتهى فعلياً؟

الجواب—كما تدلّ كل المؤشرات—واضح: لقد تجاوزته الوقائع، وتجاوزه الزمن.

إنّ الصحراء المغربية ليست فقط قضية ترابية، بل هي أيضاً قصة بناء، واستثمار، وإيمان بوحدة الوطن. وبينما يستمر البعض في كتابة البيانات من خلف الحدود، يمضي المغرب في تشييد نموذجٍ قادر على تحويل جغرافية النزاع إلى فضاء للفرص. وهكذا، تتراجع الضوضاء ويعلو صوت الواقع، ليقول إن المستقبل يُكتب في العيون والداخلة، لا في مكاتب الدعاية ولا في مخيمات النسيان.

توقيع: عبده حقي

0 التعليقات: