الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 16، 2015

حروف الفقدان

حروف الفقدان
أمسكت بكفه، وحين ضغطت بحنو ، أحسست كأنني دغدغت رأس خيط واهن أو مثلما بلغت في برهة منتهى ممشى كنت أجهل كيف طرقته ...
سرير أبيض .. وقطعة آدمية من جليد على أهبة الانحلال في كيمياء التراب الأزلي المنعوت بالشاهد ة.
بين الحيطان المتدثرة بأصماغ الصمت السرمدي والأوجاع الجامحة  والأنات المنقذفة من حمم الروح .. كانوا قد عبرأولاءك الذين نعرفهم أ ولانعرفهم مثلما يعبرهوالآن متشبثا بتلابيب البقاء ... ويود لونقتسم معه ما جادت به السويعات الهازئة من اصطبار معاند .
عيناه سارحتان في الفراغ المثخن برائحة العقاقيرالممهورة بالمرارة ، تتحدثان بالرفيف والإمعان الموغل في انغراسنا حول مثواه الأخيرعن الرجات الدفينة في أوصال الإرب العليل ، التي كانت تطوح برأسه بين الحائط و درج التراويق وأنبوب الدم الذي يبقرالبطن ويرضع  باشتهاء ماكرما تبقى من نجيع القلب ويقطره في صلف معدني أبيض من تحت السرير.
وفي الغرف المتوارية كانت ثمة لجة صاخبة حول المتمددين مثله على أسرة الغياب.. صمت يعم متنكرا خلف أكذوبة السنين .. تعود الهدنة المؤقتة وتمضي الاهتزازات إلى وقت لاحق .. تتفقد الخليلة بارتجاف باد على كفيها ثنايا دثاره الخفيف ومخدته لاستكانة الرأس المحموم ، ثم تهيئ منومات الغياب و قبل انصرافها تتملى وجهه المنحوت  بازميل السقم ، وتبصم قبلة على جبينه وها هي ذي الزلازل الجوانية تدك مرة أخرى عالم الدواخل  فتنطوي مسافات العمرعلى نفسها بسرعة الرمش الواجف ...
والآن كيف فقد البيت معناه.. أركانه ودفئ الحياة فيه .. قلت في نفسي ما جدوى أن يستمرهذا السقف من بعده ولمن سينهمرهذا الضوء على مضجعه المهجورالذي لا تستقيم  حيطانه إلا ببقائه .
ثم ما جدوى أن نصغي ، نتكلم و نرى هذا العالم من دون مجاورته .
من مراتع البدايات الى مهاوى الفقدان   .
هو لم يكن يعلم أن سفرنا  بقدرما كان بحثا عن نبتة  البقاء ، فقد كان أيضا رحيلا الى غياهب الانمحاء .
وعلى تضاريس العبورالمارق.. كانت الحياة تتـأبط الغازها وتسخرمن أوهامنا.
أدخلناه قلعة الأسقام .. كان الطابوريمتد الى ما لا نهاية... رجال قادمون من كل فج عميق.. كانوا كالحيتان الميتة التي تطفوعلى سطيحة الأقدار.. يمنون أنفسهم لعل في أكف الملائكة البيضاء ينبسط سحرالترياق.
من جوف غرفة الأشعة الكيميائية كنت أصيخ السمع الى وجعه ..أناته التي ترج المعابروالأدراج ..فجأة عصف النبأ بكل باقات التضرعات ، حين أسرت لها بالخبرالعاصف .. لم تتملك نفسها وذرفت دموعها الملتهبة تحت المنديل خفية .. تقنعت له بالابتسامة الضويئة . أحمد لم يكن يعلم سرسقمه المتلاف لهواء الباطن ولذلك كان يجيب على عبثية الوجود بيقينية البقاء.
قالت له :
ـ أطلب ما تريد وما يلذلك فنحن فى عاصمة الرغبة.
 فرد نافثا أقساط الكلام بالزفرات الساخنة:
أجل خذيني معك كي تدغذغ أقدامي رمل الساحل وقت الغروب لأنقش هناك أثرا لذكراي فلربما لن أعود ...
ثم أردف وهو يلتقط أنفاسه الحرى : كم يلزمنا من الزمن للشبع من الزمن !؟ فعلى كل معصم منا آلة ترصد العمر.. وحين لانفكر في الموت فمعناه أننا قد انتهينا ، فدعيني أداريه على الأقل بقناع الحياة .
ارتفقت النافذة .. كانت تروم انخطافا منقذا من قلق السؤال الضاعظ .. وكانت بعض حشرات تخترق ثقوب وشقوق الحائط المتصدع ... هل لها آلام هي أيضا .. وهل تفكرفي آلامها !؟ .. وفيم تفكرداخل أكنافها المعتمة وفي طريقها القليل ذاك على خط زاوية الركن ، حيث يصير النورلديها معبرا إلى مسارب ديجورها الأليف... لقد توقفت عن سيرها الخفيض ،لاشك أنها تستخف بعالمنا العاري على منصة النهار.. عالمنا جميعا .. عالمنا الذي نلاحقه من دون أن ندرك أننا نركض ببلاهة نحو مهاوي نهاياتنا .. إننا محاصرون بالفناء ، بالموت ، ومع ذلك نغتربقدرتنا على البقاء من أجل العيش وبقدرما نستطيع ..!!
كانت الأشياء من حولنا تغري وتعطينا انطباعا بأن الحياة جديرة بالحياة برغم هذا الثقب الشاسع في طبقة الأحاسيس المخرومة بالكآبة.
كانت الوجوه في الشارع تطفح بالرواء والتبلج ..والأقدام تلتهم ما تبقى من الدروب المتشعبة ، التي وقعنا عليها صدفة وصرنا مسعورين بالترنح على حبل الرهانات الواهية .. وهذه المعابرلا تكشف عن فداحتها إلا بعد أن نستفيق من دوارالاستلذاذ الخاطف .. وهذه الوجوه التي تقايض النظرة بالنظرة الكابية ، هي نفسها ذات الوجوه التي رأيتها بالأمس هناك في مراتع البدايات والتي يقينا سأراها في مواقع أخرى وربما في أزمنة آتية... هي ما فتئت تمشي وتمشي وتمشي باتجاه ملاذاتها الأخيرة. ( بالنسبة لي لا يقع  هذا إلا نادرا عندما أفتح كتاب الذات وأغور في أسطورتي المنقوعة في حبر السقوط)
فيما ستجدي إذن كل هذه الأعشاب والتمائم النحاسية والعقاقيروالترحال بين الأسرة البيضاء مثل الفراش المكتوي بناروهم الحياة !!!
حملناه الى البيت...
عشاء أخير...
لاقيام بعده...
كانت الأيادي تتمسح  بجسده المهيض.. شعرنا أن أرواحا عليا تقاسمنا شعائرالمراسيم وتدون على لوحها المحفوظ تفاصيل الاحتضار...
..وفي لحظة ما غفوت، وجدته قد احتدمت فيه الشهقات والحشرجات والتمرغ على سعيرالألم الدفين وكان الليل من حولنا يسري على مهل كأنما يهبه ليلا ضافيا للتملي الى ما صرفه من عمره القصير..
كان أمامنا جسدا  يزحف خلسة الى حافة النزع الأخيرة...
 وبين الغفوة واليقظة تمتد اليد الرؤومة لتطفئ لظى الأنفاس بقطرات الندفة العدنية.
أيقنا ألا بد مما ليس منه بد...
فليتنا .. ليتنا أدركنا معنى هذيانه قبل الإغماضة الأخيرة.                                                                       

0 التعليقات: