الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يناير 08، 2016

كابوس الرأس المقطوع

قصة قصيرة كابوس الرأس المقطوع :للكاتب المغربي عبده حقي
.. ربما لأنني محاصر بزمن الرؤوس المقطوعة المعلقة على بوابات بغداد ودمشق
وأقسام المستعجلات في الفضائيات العربية .. رؤوس آدمية تبدو أرخص من كرة يقطين حيث شاهدت يوما على اليوتوب أطفالا سوريين سلبت منهم براءتهم كانوا يلعبون الكرة برأس مقطوع على سفح قلعة حلب التاريخية ...
ستوشوشون من دون شك فيما بينكم وستقولون ما أبشعها من عتبة !! كما لو أنني تمردت على وداعة القصة أليفتي وخليلتي الحالمة في منتجع مخيلتي ...
هاهي إذن مخيلتي تنتفض فجأة لتدخل إلى مجزرة بداية القرن الواحد والعشرين في المتاهات الدموية من يومياتنا العربية ..
وستسألونني أيضا كيف عنت لي فكرة ذبح قصة قصيرة من وريد عنقها إلى وريد عنقي ؟!
أجل .. السبب هو حكايات وقصص وأخبار كثيرة ضج بها رأسي فحرضتني على ذلك .. قصص سمعت عنها أو قرأتها عن رؤوس مقطوعة لعل أشهرها "حكاية الرأس المقطوع" للناقد والروائي المغربي محمد برادة الصادرة في مجموعته القصصية "سلخ الجلد" أوائل السبعينات وحكاية الثائر الزرهوني الذي لقبه القوم (بوحمارة) بعد أن فتك به الجنود سنة 1861، واجتزوا رأسه ومرغوه في الملح ثم حملوه إلى مراكش وعلقوه بساحة "جامع الفنا" لمدة طويلة ... وهناك رؤوس أخرى قرأت عنها في كتب التاريخ ملحت وعلقت أيضا على قوس باب "المحروق" بفاس على بعد خطوتين من قبر العالم الأندلسي الشهير لسان الدين إبن الخطيب المعروف بذي الميتتين ... وأخيرا حكاية الرأس المقطوع في مكناس حيث قام مجرم في جلسة خمرية بإحدى الضيعات بجز رأس جليسه ووضعه في كيس وسار به في شوارع المدينة إلى أن دخل حانة وهناك بكل هدوء وبرودة أعصاب وضع الكيس على الكونتوار ثم شرع يكرع الجعات الواحدة تلو الأخرى من دون أن يثير إهتمام الرواد الثملين الشاردين في ثرثراتهم وهمومهم . وحين هم بالإنصراف طلبت منه النادلة آداء مابذمته ، غير أنه من دون تردد أخرج الرأس المقطوع من الكيس ووضعه على الكونتوار فوق كومة القنينات قائلا : هذا هو من سيؤدي الفاتورة ..!
ولكم أن تتخيلوا أيها القراء تتمة هذه الواقعة وما سيعتورها من مشاهد إغماءات وصراخات وتقيؤ وتدافع السكارى وهرولاتهم في كل إتجاه مخافة أن تقطع رؤوسهم ... أما المجرم فقد مكث واقفا ، منتشيا بفعلته يتجشأ ويمج سيجارته في هدوء غريب مثل كوبوي في حانة بالتيكساس .
أما حكايتي أنا ـــ وأعوذ بالله من قولة أنا ـــ مع رأسي المقطوع فصدقوني أنها ستكون أغرب الحكايات على الإطلاق إذ لاهي بالحدوثة ولا بالحكاية ولا بالخرافة ولا بالقصة ولا بالرواية .
طبعا ستقولون لي إذن ماهي حكايتك إذا لم تكن واحدة من ضمن كل أجناس السرود هاته.؟
إنها كابوس .. أجل كابوس أعزائي بكل بساطة .. هو جزؤ من ليلة ليلاء لم ينزل ستار نهايتها الأحمر إلا على صرختي المرعبة .. العالية التي دوت صيحتها في كل الأرجاء ومزقت بأنين إشفاقها حجب الليل الدامس من حولي ... لم أشعر إلا وأنا أقفز فوق السرير لاهثا في الظلام لأتحسس عنقي بيدي وأمسك برأسي الأشعث الملتهب ككرة النار بين يدي ، هاتفا في العالم أجمع : الحمد لله .. الحمد لله مازلت على قيد الحياة ومازال رأسي بين كتفي معبأ كما كان بأحلام طفولته البريئة والقديمة ...
موتي بغيظك أيتها التوابيت المتربصة بنهايتي فأنا ما زلت حيا أرزق .
أجل .. صدقوني أعجب وأغرب ما في هذا الكابوس الذي روعني ليلة أمس نزوعه المتواطئ نحو واقعية مفترضة مع قدرته الفائقة على غزل حبكته التي أوهمتني أو بالأحرى أرغمتني على الإيهام بأن كل ما يحدث في تفاصيله هو شبه الواقع بل هو كل الواقع ...
تخيلوا ياسادة يدي اليسرى هاته تمسك بمدية أضحية العقيقة الملفوفة في خرقتها البيضاء المعتادة التي كان يستعملها والدي رحمه الله في نحر أكباش السابع لإخوتي العشرة ... تخيلوا يدي في غفلة مني تمسك بهذه المدية الأليفة في البيت وتمر بها بغتة على عنقي من الوريد إلى الوريد .. ثم تستمر هذه اليد اليسرى العاقة واللئيمة في حركة منشارية مجنونة إلى أن فصلت رأسي عن جذع عنقي وسمعتها في آخر جرة تطلق زفرة النهاية والمدية تتبعها بزغرودة إشفاء غليلها الذي من أجله إبتكرها بكل غباء أول مجرم في تاريخ البشرية من دون تقدير لعواقب إبتكاره الدنيئ على سلالته...
طاش دمي في كل أركان الغرفة حتى لطخ السقف .. ورأيت كيف أن يداي معا سارعتا بخفة إلى إلتقاط رأسي قبل أن يقع على الأرض ويتدحرج مثل رأس دمية من مطاط .. وسمعته وهو يتدحرج ينفجر ضحكات وقهقهات ممزوجة بنوبات بكاء هستيري جنائزي غير مسبوق .. ورأيت عيناي تدوران مثل عيني بومة ولساني يتدلى في الفراغ مثل جورب رياضي أحمر طويل مشوب بمسحة بياض من شدة الإجتفاف .. ثم أخيرا سمعت صدى صوت يتردد في الغرفة لعله صوت اللاوعي أو الأنا الأعلى أو صوت تهيؤات تلبستني أو ماشئتم من هرطقات علم السيكولوجيا المرضية .. كان صوتا يأمرني بأن أضع رأسا أخرى مكان رأسي المقطوع كي أسترد حياتي على الفور .. ومن دون تردد أو تحفظ أو حتى الندم على التفريط في حقوق ملكية رأسي الطبيعي وما يخزنه من أحلام وأفكار وكتابات ، إلتفت حائرا يمنة ويسرة فرأيت رأس حمار بجانبي فانقضت عليه يداي وهما ترتعشان وغرستاه بسرعة في جذع عنقي من أجل أن تعيدا جسدي للحياة وبأي شكل كان ولو برأس حمار أو كلب أو ماشئتم من أسماء الحيوانات الداجنة ... لم تعد تهمني في تلك اللحظة التراجيدية درجة غرائبية المسخ الذي سأقترفه في حق جسدي أو شكلي الميتامورفوزي الجديد بقدر ما صرت أهتم بأن أعود للحياة في حينه .. أجل .. أجل لكي أعود لحياتي الجميلة هاته بأي شكل عجائبي كان ، وأقص عليكم هذا الكابوس ثم أختفي بعد الحكاية وأنا مغتبط بحياتي الجميلة لأنني أعيشها من جديد ولو برأس حمار ... ما أجمل الحياة .. وما أبشع الكوابيس ...



0 التعليقات: