تبقى حكاية العلاقة بين جدته وجده صندوقا
مقفلا إلى الأبد حيث لا أحد من الخلف أوالأحفاد يعلم بخيوطها وخباياها البعيدة ، فكل
ما يعلمه صاحب هذه السيرة الذاتية هوما تواتر من قصص العلاقات الإجتماعية التقليدية
الصحراوية التي تقوم أساسا على الحشمة والحياء وعلى دورالقبيلة في شرعنة هذه العلاقة
عن طريق الزواج بالفاتحة أوبواسطة كتاب العدول في السوق الأسبوعي .
أما عن علاقة جده وجدته فمن المؤكد أنهما قد رحلا
معا مشيا على الأقدام في مطلع العشرينات من القرن الماضي واستقرا بمدينة مكناس بأحد
الأزقة المتفرعة عن شارع "اروامزيل" في بداية الأمر.
ويعتبر شارع "اروامزيل" من بين أهم شوارع
المدينة العتيقة ويعد المعبرالرئيسي نحو المدينة الجديدة "حمرية" . يضم هذا
الشارع عديدا من المتاجرالعصرية والمقاهي والمطاعم الشعبية وثلاث دور للسينما هي
"المونديال" و"الأطلس" و"أبولو" .
إن حركية هذا الشارع النشيطة وموقعه الإستراتيجي
كرابط بين المدينة العتيقة "قبة السوق" والمدينة الجديدة "حمرية"
جعله محطة استقطاب للوافدين المهاجرين الجدد على مدينة مكناس لأنه كان يتيح كثيرا من
فرص الشغل وممارسة الحرف والمهن سواء في المدينة العتيقة أوفي المدينة الجديدة
"حمرية" التي أنشأها الإستعمارالفرنسي وشيد بها المنشآت الصناعية والإدارية
والفندقية والمرافق الصحية والتعليمية العمومية والخاصة والتي ماتزال معالمها إلى اليوم
بعد مئة عام من تشييدها قائمة بنفس الدورالخدماتي الذي شيدت من أجله قبل قرن من الزمن .
في أحد دروب شارع "اروامزيل" القريب من
سينما "مونديال" إزداد والده حوالي سنة 1932 حسب ما هو موثق في كناش الحالة
المدنية ، ما يعني أن أعمامه وعماته الأكبرمن والده سنا وعددهم أربعة قد إزدادوا هم
أيضا هنالك .. وإذا ما تتبعنا دورة التناسل الطبيعية التي تفصل بين كل مولود ومولود
غالبا ماتكون عامين وبالتالي حسابيا قد يكون جده وجدته على الأرجح قد إستقرا بهذا الزقاق
بين سنوات 1920 و1922 .
بعد شارع "اروامزيل" إنتقلت عائلته إلى
حارة "باب القاري" التي لاتبعد سوى بنحو مئتي مترعن شارع "اروامزيل"
.. إن صاحبنا وغيره من أفراد العائلة لايدرون ما هي الأسباب الحقيقية التي جعلت الجد
ينتقل إلى حارة "باب القاري" .. هل كان ذلك بحثا عن بيت أرحب يتسع لكثيرمن
الأولاد أم للسكن قرب ورشة عمل جديد أم لأسباب أخرى ...
وحارة "باب القاري" من المواقع التاريخية
الهامة في العاصمة الإسماعيلية مكناس . إنها تضم قصروضريح السلطان المولى إسماعيل وإلى
جواره توجد قبة "الخياطين" التي يقع تحتها دهليزشاسع يبلغ طوله حوالي ثلاث
كيلو مترات يسمى "حبس قارا" وهو قد كان سجنا رهيبا ومرعبا شيد من أجل سجن
المعتقلين من جيوش النصارى الذين كان جيش البخاري يلقي عليهم القبض خلال حقبة المناوشات
الحربية التي كانت تقع بين المغرب وبعض الدول الأوروبية على الحدود والثغورالشاطئية
خصوصا الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين .
لقد كان صاحبنا وأصدقاؤه وهم صغارا يزورون من حين
لآخرهذه السراديب الرهيبة ، وكانوا يشاهدون الأصفاد والسلاسل الحديدية الضخمة المعلقة
على الأسوارغيرأنهم كانوا لايجرؤون على الإيغال بعيدا في أعماق تلك السراديب مخافة
أن يضيعوا طريق العودة وينفقدون مثلما إنفقد عديد من السياح خلال زياراتهم لهذا القبوالشاسع .
يوجد أيضا بهذه الحارة منتزه "كولف" يعتبرامتدادا
للقصرالسلطاني كما توجد بها ساحة شاسعة شبيهة بساحة باب الماكينة بمدينة فاس التي يقام
بها كل سنة المهرجان الدولي للموسيقى الروحية .
خلف "سجن قارا" توجد إحدى أهم المعالم
التاريخية ليس بمكناس فحسب وإنما في المغرب وشمال إفريقيا : إنه "باب المنصورالعلج"
وهومن أشهرالبوابات بمكناس ويعتبرأيقونة المدينة ومفخرتها التاريخية وهو مشرع من جانبيه
على ساحتين هما ساحة "لالة عودة" وساحة "لهديم" المشهورة عالميا
حيث كانت ملتقى استعراضات جيوش البخاري والتي تحولت اليوم إلى ساحة للفرجة الشعبية
مثل ساحة "بوجلود" بفاس وساحة "جامع لفنا" بمراكش ...
في هذا الفضاء التاريخي التليد إنتقل جده وجدته
وأعمامه الصغارللسكن بدرب "الصوف" . ومن القصص الطريفة التي وقعت في هذا
الفضاء السلطاني أن شيخا مسنا كان كل يوم يجلس تحت جذع شجرة فيحاء توجد أمام بوابة
ضريح السلطان المولى إسماعيل ، وكان هذا الشيخ يقضي طول يومه هناك يتوسل المارة وزوارالضريح
بالنقرعلى آلة "الطبيلة" بعصاوين قصيرتين مرددا أغاني صوفية من التراث الفيلالي
المغربي . ومما يحكى عنه أن كوكب الشرق السيدة أم كلثوم خلال زيارتها لمدينة مكناس
سنة 1969 توقفت عند هذا الشيخ لعدة دقائق واستمعت لنقرات إيقاعاته التراثية الجميلة
التي أعجبت بها كثيرا وقبل أن تنصرف نفحته قدرا هاما من المال يشاع أنه بلغ خمسمئة
درهم مايعادل اليوم خمسة آلاف درهم ..
كانت حارة "باب القاري" هي المعبرالخلفي
لساحة "لهديم" ومنها كان صاحبنا ورفقاؤه يمرون إلى المدينة العتيقة .. إلى
شارع "اروامزيل" ومنه إلى المسبح البلدي "لابيسين" أو حديقة
"لحبول" أو المدينة الجديدة "حمرية" التي تتراءى معالم عمرانها
العصري هنالك متربعة على قمة الهضبة .
وأخيرا بعد هذه الرحلة إنتقلت العائلة من حارة
"باب القاري" إلى حي "بني امحمد" حيث إشترى جده قطعة أرضية وبنى
بها بيتا جديدا وكان ذلك على الأرجح في أوائل الأربعينات من القرن الماضي .
تعتبرحارة "ابني امحمد" هاته امتدادا
مجاليا لحارة "باب القاري" إذ لاتبعد عنها سوى ببضع عشرات من الأمتار، غيرأن
مايميز تركيبتها الإجتماعية هو توافد معظم سكانها من واحة تافيلالت حيث تغلب السمرة
على سحنات أهاليها وتتقاطع لكنة دارجتهم كثيرا مع أهالي تافيلالت وقصرالسوق .
يحد حارة "بني امحمد" ثلاث بوابات رئيسية
هي : الباب الغربي المشرع على فضاء حي "الملاح الجديد" وباب "صهريج
السواني" الذي يقام فيه أضخم وأشهرمعرض دولي للفلاحة كل سنة وباب "اسباتا"
المشرع من جهته على سهول وضيعات الجهة الغربية .
لقد أنجبت حارة "بني امحمد" هاته عديدا
من الشخصيات الوازنة في عالم السياسة والرياضة والفن والثقافة نذكرمن بينهم إدريس محمدي
أول وزير داخلية مغربي في حكومة عبدالله إبراهيم التي عينها الملك محمد الخامس يوم
4 ديسمبر 1958 واستمرت في أداء مهامّها حتى 21 مايو 1960 وهناك وزير الداخلية السابق
احميدو لعنيكري ومعالي الأستاذ حميد آيت أوعلي سفيرالمملكة المغربية في البحرين ثم
وفي الإمارات العربية المتحدة حاليا وعامل إقليم آسفي السابق أحمد شوقي ولاعب المنتخب
الوطني لكرة القدم في نهائيات كأس العالم سنة 1998 بفرنسا اللاعب عبدالجليل هدا الملقب
ب"كاماتشو" والممثل والمخرج إدريس الروخ والقاص والروائي عبدالنبي كوارة
وغيرهم ...
يقينا أنه في هذا البيت البسيط كانت بكل تأكيد بداية
الحكاية الحقيقية لبطل هذه السيرة الذاتية .. من هنا إذن تنطلق الذاكرة ومن هنا تبدأ
حكايته وحكايات الآخرين .
يشق حارة "بني امحمد" شارع رئيسي يمتد
من الباب الكبير إلى مشارف حي "اسباتا" الحديث العهد.
ليس هناك مايثبت مصدرتسمية هذه الحارة ب (بني امحمد)
. هل يعود هذا الإسم إلى مالك الأرض التي بنيت عليها منذ أوائل القرن العشرين أم يعود
لسكان قبيلة "بني امحمد" في تافيلالت الذين ربما قد يكونوا هجروا إليها أم
لسبب آخرغيرمعلوم .
تقوم هذه الحارة على هندسة عشوائية لاتنضبط لأي
تصميم محكم ، والتباين بين مساحات البيوت يجعل الأزقة الضيقة لاتستقيم على تشكيل معقلن
... إنها مجموعة من البيوتات الواطئة المتقاربة جدا والتي يتعذرعلى السيارات والشاحنات
أحيانا المرورمنها بل هي لاتصلح فقط إلا لمرور الدواب والدراجات والمركبات الخفيفة .
أما الدرب الذي ازداد فيه صاحبنا فتوجد به سقاية
هي مورد الماء الرئيسي للأهالي ومنها كانت تملؤ القلال الجلدية والسطول الحديدية والمقاريج
..إلخ وبها يتوضؤ الرجال العابرون إلى مسجد السويقة للصلاة وتعقد لقاءات النساء للحديث
عن همومهن .. أفراحهن وأسرارهن ...
كان يوجد بدرب صاحبنا خياط عصري وحانوت ضيق جدا
لفقيه كسيح إسمه السي العربي الذي كان يخطط على قصاصات من ورق التمائم والتعاويذ للنساء
العليلات والأطفال المرضى بهوس الجن.. ويوجد بالدرب كذلك فران الحومة الذي مايزال يشتغل
على الأرجح منذ أكثرمنذ سبعين سنة إلى اليوم .. ويوجد أيضا في راس الدرب جزاروسفناج
ولبان وبقال ونجار..إلخ
كان هذا الدرب معبرا أساسيا لوجوه مألوفة ووجوه
غريبة ولأصوات الباعة والحرفيين المتجولين على أقدامهم أوالمرفوقين بحميرهم وكراريسهم ...
في هذا البيت .. في هذا الدرب .. في هذه الحارة
شرعت عائلته تدون تاريخها منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي .. كان والده رحمه الله
يبلغ من العمروقتئذ ثمان أو عشرسنوات حينما إنتقلت العائلة من حارة "باب القاري"
إلى حارة "بني امحمد" .
لايمكن الحديث عن هذه الفترة من عمرالوالد دون الحديث
عن سياقها التاريخي في عهد الحماية الفرنسية حيث طفقت بعض مظاهرالحداثة تتخلل المعيش
اليومي للأهالي في حارة "بني امحمد" ، فالدرب كان ومايزال يسمى درب
"الشيفور" أي سائق السيارة بالفرنسية
Chauffeur. والحارة تشهد كل يوم مرور عربة يجرها بغل
ضخم خاصة بتوزيع الغازالسائل على الدكاكين من مضخة كبيرة ذات ذراع حديدي يتم الضغط
به من أجل ملء براميل البقالة بالغازالسائل الذي كان يستعمل في إنارة اللمبات في البيوتات
، إذ أن جل المنازل لم تكن مزودة زمنئذ بشبكة الإنارة . وكان الدرب يشهد أيضا مرورالدراجات
العادية والنارية من حين لآخر .. ورسو سيارة "أوبيل" خضراء اللون لجارهم
الثري الفلاح الإقطاعي الذي كان يملك عشرات الهكتارات من الأراضي الفلاحية بضواحي مكناس
. وكنت تسمع أزيزماكينات الخياطة "سانجير" في البيوت التي اقتنتها النساء
لرتق الملابس القديمة أولخياطة ملابس جديدة ..إلخ
كان الخروج من جزيرة "بني امحمد" خروج
إلى مدينة أرحب .. إلى حياة عصرية بدأت تدب رويدا رويدا في بنية المجتمع المكناسي
. فشوارع المدينة الجديدة الفسيحة بطرازعمرانها الفرنسي الحديث تجوبها شاحنات الجيوش
ومركبات الشرطة الفرنسية . وورشات ومعامل الإصلاح التقني والميكانيكي تتوزع هنا وهناك
، والمقاهي والمطاعم والمقشدات والحانات تفتح في كل مكان . وشرعت الهيئات والجمعيات
الرياضية تنظم بعض المسابقات في كرة القدم وسباق الدراجات والسيارات والملاكمة ..إلخ
وكنت لاتسمع في فضاءات حي "حمرية" العصري الجديد غيراللغو بالفرنسية بدل
اللهجة الدارجة المغربية .
كان والده رحمه الله ذو نزوع ورغبة جامحة في إثبات
ذاته كبطل في إحدى الرياضات ولذلك كان منذ حداثة سنه يميل إلى العراك مع أقرانه لأتفه
الأسباب ولم يكن أبدا يرضى بالهزيمة .
في مطلع الخمسينات إنخرط في إحدى الشركات الصناعية
الكبرى .. تعلم أبجديات التقانة والخراطة الحديدية وهناك أيضا تعلم اللغة الفرنسية
وصار يتحدث بها بطلاقة .
إشترى والده دراجة هوائية ليتنقل بها إلى الشركة
الصناعية في "حمرية" ثم إستبدلها بأخرى خاصة بسباق الدراجات . وكان يحرص
كثيرا على الوصول في الصباح الباكرإلى مقرعمله في الشركة الصناعية "لاسيام"
قبل قدوم باقي العمال ليمارس رياضة حمل الأثقال وكمال الأجسام مستعملا في ذلك بعض قطع
الغيارالثقيلة حتى صاررحمه الله ذوقامة رياضية أولمبية بارزة .
ذات يوم زار بيتهم شرطيان فرنسيان . طرقا الباب
بلطف . فتحت الجدة الباب فذهلت لوجودهما ظانة أنهما قد جاءا لاعتقال أحد أولادها الشباب
المتورطين في إحدى العمليات الفدائية ضد المستعمر. غيرأنهما طمأناها وأودعا لديها إستدعاء
خاصا لكي يحضروالده إلى مخفرالشرطة "الكوميسارية سونترال" في "حمرية"
بعد عودته من العمل .
حامت الظنون بجدته وحين عاد والده من العمل عند
الزوال سلمته الإستدعاء . بعد أن طمأنها ببراءته قفل عائدا إلى مخفرالشرطة . إستقبله
أحد المسؤولين بحفاوة زائدة ، استغرب لها والده ثم بعد لحظة مقابلة ودردشة استئناسية
طلب منه المسؤول أن ينضم إلى الفريق الوطني الفرنسي للملاكمة مقابل حصوله على الجنسية
الفرنسية وامتيازات مالية ومعنوية . وكانت المفاجأة أن والده رفض أن يلعب تحت العلم
الفرنسي وفاء لثوابت ومقدسات الوطن .
حكايات والده مع الإستعمارالفرنسي كثيرة لن تتسع
لها فصول هذه السيرة الذاتية لعل أهمها إنتفاضة ثورة الملك والشعب أواسط الخمسينات
حيث قاد والده جماعة من المقاومين الشباب وقاموا بعدة عمليات ثورية في "حمرية"
وفي ضواحي مكناس أهمها إحراق ضيعة المعمرالفرنسي "مانويل". فقد عمدت هذه
الجماعة الفدائية إلى تبليل بعض الفئران والقطط الضالة بالغاز السائل وأشعلت فيها النارثم
أطلقت سراحها في ضيعة "مانويل" مما أدى إلى إحراق كل المحصول الزراعي ، كما
امتدت النيران إلى مستودع الآليات الفلاحية فاحترق بالكامل .
ليس هذا فحسب فقد كان والده كثيرا ما يختلق المناوشات
بينه وبين العمال الفرنسيين التي غالبا ماكانت تنتهي بمبارزات ملاكمة شرسة يكون هو
دائما الفائز بها مما جعلهم يتوجسون كثيرا من إثارة غضبه أومعاكسته بالقوة .
لايرغب صاحبنا في الإستطراد في تضخيم رمزية والده
الذي إستطاع أن ينحت له كاريزمية خاصة مايزال يشهد بها مجايلوه من الشباب وماتزال مصدرإعتزازه
حتى وهومنهمك اليوم في كتابة هذه السيرة الذاتية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق