منذ منتصف شهر غشت الجاري، دخل قطاع الصحافة والنشر بالمغرب منعطفا تاريخيا حاسما، وذلك بتنزيل قانون الصحافة والنشر رقم 88.13 بهدف مواكبة
المستجدات والتحولات التي عرفها المشهد الإعلامي بكل أسانيده المرئية والمسموعة والمكتوبة والرقمية، سواء على مستوى الانخراط في ثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال أو على مستوى مواكبة خطاب الحراك السياسي والثقافي والجمعوي الذي تعرفه البلاد في ظل عهدها الجديد، وخصوصا خلال سنوات انفجار براكين الربيع العربي وثورة الياسمين في تونس في يناير 2011 التي حتمت على الدولة مراجعة مقارباتها لمختلف آليات التدبير السياسي والحقوقي، توجت بإقرار دستور جديد من أجل الانحناء للعاصفة الثورية العربية، والانتقال بالبلاد إلى منعطف تاريخي ديمقراطي جديد عبر ثورة هادئة وناعمة بأقل الخسائر والأضرار.
لقد عرفت ولادة مدونة قانون الصحافة والنشر عدة مخاضات وتجاذبات بين مختلف الفاعلين والمهتمين والمهنيين منذ تشكيل أول حكومة بعد تنزيل الدستور الجديد، إذ فتحت عدة أوراش تم تدشينها بتنظيم أول ملتقى وطني للصحافة الإلكترونية بالمعهد العالي للإعلام والاتصال يوم 10 مارس سنة 2012، الذي كنا من بين المشاركين ضمن فعالياته والمساهمين في إحدى ورشاته بمداخلة تحت عنوان "أي قانون لمستقبل الصحافة الإلكترونية بالمغرب؟"، وهي المداخلة التي صدرت ضمن خمس دراسات أخرى أصدرتها وزارة الاتصال مشكورة في قرص مدمج.
هذا الملتقى الوطني الأول الذي عرى الغطاء عن جيش جرار وعرمرم من المواقع الإلكترونية المشاركة التي ناهزت 300 موقع وقتئذ من مختلف مدن وقرى ومداشر المملكة، وحتى النائية منها، ما أظهر بشكل ملموس جدية وحجم خطورة هذه الظاهرة الإعلامية الرقمية الجديدة بعد أن أصبحت المعلومة تأتي من الهوامش المنسية، وليس من المركز التقليدي عبر مصفاتيه الرئيسيتين، الرباط والدار البيضاء على الخصوص.
ومما لا شك فيه أنه في وقت كانت تجتاح جيوش هذه المواقع الإلكترونية إلى المشهد الإعلامي البديل زاحفة في صمت بدوافع عديدة ذاتية وموضوعية وسوسيولوجية، منها النزوع الشبابي الطبيعي لإثبات الذات واكتشاف آفاق نشر جديدة في منصات العالم الشبكي، ووجود فائض من الوقت في زمن العطالة، ومنها أيضا سهولة إنشاء منبر إخباري إلكتروني سيار على الإنترنت وبأقل تكلفة مادية مقارنة مع الاستثمارات المالية الضخمة التي تتطلبها المنابر الإعلامية في الصحافة المكتوبة على الخصوص، وأخيرا إغراءات عائدات إشهار شركة غوغل أدسنس وغيرها..إلخ.
في ظل تناسل هذه المواقع كان الفاعلون التقليديون في مجال الإعلام الورقي يستخفون بهذا الوافد الجديد، باعتباره ضربا من لعب "الدراري" لن يطول أمد ضجته، وأن مصيره إلى زوال، على غرار عديد من الظواهر التكنولوجية الحديثة التي تظهر وتختفي، غافلين أو متغافلين أن الأمر يتعلق بمصير مادتهم الخام (المعلومة والخبر) وقوتهم اليومي الذي بات في كف عفريت الإنترنت.
غير أنه مع مرور الوقت واضطرار عديد من الصحف العالمية العملاقة إلى إطلاق نسخها الإلكترونية وتسريح العشرات من عمالها لترشيد نفقاتها في ظل وضعها الرقمي الجديد، وصعود دعامات إخبارية إلكترونية مثل مواقع التواصل الاجتماعي، وتعاظم سبق انتقال المعلومة والخبر يوما بعد يوما من السند الورقي إلى السند الإلكتروني؛ فضلا عن اتساع ثقافة إعلامية رقمية جديدة خاصة بمعالجة المعلومة والخبر وإمكانية تحيينه ونشره في حينه، حتى قبل أن تطلع عليه الشمس في المنابر الورقية، كل هذا أدى إلى سحب البساط من تحت أقدام الوسائط التقليدية برمتها وانتقالها جميعها إلى ما يمكن أن أسميه "المنبر الإعلامي الفائق"، أي المنبر الرقمي الذي تلتئم في منصته كل أنواع المعلومة المكتوبة والمسموعة والمرئية والصورية... إذن كل هذا الانقلاب الهائل والمفاجئ في طرق التواصل فتح شهية عديد من الصحافيين، وخصوصا منهم المنتمون إلى الصحافة المستقلة، للمغامرة والانخراط في هذه الدعامة الصحافية الجديدة، معتمدين على تكوينهم الأكاديمي وتجاربهم في المنابر الإعلامية الورقية اليومية والأسبوعية ودربتهم في مقاربة، واقتناص المعلومة ومسالك البحث عن مصادرها في مؤسسات الدولة أو الجهات النافذة مقارنة مع أولئك الشباب الهواة، تلك الكائنات النازلة إلى ساحة الإعلام من دون تكوين صحافي أو ثقافة إعلامية واسعة أو حتى دراية بأبسط طرق تحرير ومعالجة المادة الخبرية، غير ما اكتسبوه ذاتيا من نزر يسير من ثقافة معلوماتية في شؤون الرقمنة والبرمجة وقواعد النشر الإلكتروني.
وإذا كانت فاكهة الصحافة الإلكترونية قد نضجت اليوم، وشجرتها قد حققت تراكما جديرا بالاهتمام وحضورا بارزا في المشهد الإعلامي، كما أنها أصبحت مصدرا هاما للمعلومة وفاعلا كبيرا في التأثير على الرأي العام المحلي والعالمي (الجالية المغربية في الخارج)، وفي بعض الأحيان في صنع هذا الرأي، ما قد يؤدي إلى التأثير على قرارات الحكومة ومختلف مراكز السلطة، فالفضل يعود اليوم بالأساس إلى تضافر وانصهار تجربة السابقين من الشباب أولئك المغمورين من رواد الفضاء الأزرق من جهة، ومن جهة أخرى إلى تجربة اللاحقين من بعض الصحافيين الورقيين المستقلين، خصوصا من جيل أواخر التسعينات الذين أغنوا المواقع الإلكترونية باحترافيتهم و"دهائهم الإعلامي".
إن نضج هذا التراكم حتم على الدولة والجهات الوصية اليوم إقرار مدونة للصحافة والنشر، فالفضل يعود إلى عديد من هؤلاء الشباب المستكشفين الأوائل لهذا الكوكب الأزرق، تلك الأغلبية الصامتة التي غبنتها مدونة الصحافة والنشر بعد سنوات أفنتها من عمرها في البحث والاجتهاد المعلوماتي والرقمي، والتأسيس لبنة بعد أخرى لإعلام إلكتروني مغربي يرفع رأسنا عاليا بين الأمم.
إن بعض هذه البنود "المجحفة"، التي من دون شك ستكون السبب في الحكم على العشرات من المواقع الإلكترونية بـ"الإعدام" وتكبيل عديد من الطاقات الواعدة في مجال الإعلام الرقمي، قد تم تسطير بعضها تارة بمشاورات علنية (ملتقيات ـ استمارات ـ اجتماعات ..إلخ) وتارة أخرى مرر بعضها بتحالفات إن لم نقل "تواطؤات" سرية بين الجهات الوصية ونخبة من الصحافيين الورقيين المستقلين. وكان الهدف الأساسي من فرض "تأشيرة" البطاقة المهنية على مدراء المواقع الإلكترونية هو إقصاء هؤلاء الشباب الرواد الأوائل..هؤلاء "الدراري" المتطفلين، من أجل السيطرة على سند إعلامي واعد في المستقبل بما أصبح يتيحه من إمكانيات هائلة للسبق الصحافي بواسطة أدوات الخبر المكتوب والمرئي والمسموع مقارنة مع الإعلام الورقي الذي أبان من دون شك عن عجزه العملي في مواكبة الحراك السياسي والاجتماعي والحقوقي إبان الربيع العربي؛ فضلا عن تعاظم اهتمام شركات الإعلانات والإشهارات المتحركة بهذه الدعامات الإخبارية الجديدة.
وإذا كان الهدف الأساسي إذن من مدونة الصحافة والنشر الجديدة، وخصوصا ما ارتبط بقانونها رقم 88.13 المتعلق بالصحافة الإلكترونية، هو ربط المعلومة الرقمية بالمحاسبة القانونية والضبط الأمني لمشهد الإعلام الرقمي، فقد كان من الأولى للجهات الوصية والنقابات الفاعلة في قطاع الإعلام التفكير في إقرار آليات قانونية تنصف هؤلاء الرواد المستكشفين الأوائل وتمكنهم من مداخل متاحة للاستمرار في اهتمامهم بالنشر الإلكتروني، اعتمادا أساسا على شرعية أقدمية الموقع التاريخية، وأيضا اعتمادا على التزام إدارة الموقع بأخلاقية النشر وخلو أرشيفه من كل أنواع الابتزاز والنصب والتغليط الإعلامي والدفاع عن ثوابت الوطن التي أقرها الدستور (الإسلام والوحدة الترابية والملكية).
إننا لا نختلف في كون هذا القطاع عرف منذ انفجار الربيع العربي فوضى غير مسبوقة، سواء على مستوى التناسل والتكاثر المريب أو على المستوى الأخلاقي والتطاول على حقل له قواعده وضوابطه وآثاره الوخيمة على استقرار البلاد والسلم الاجتماعي.. إنها فوضى تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى الشركات المختصة في تصميم واستضافة وإطلاق المواقع الإلكترونية، وخصوصا إحدى الشركات المشهور التي قد أزعم أنها أسهمت في خلق أكثر من ثلثي هذه المواقع من دون ضوابط قانونية ولا معايير أخلاقية سلوكية أو مهنية لمدرائها، عدا ما تعلق من أغلفة مالية يستثمرها هؤلاء الشباب المغامرين الباحثين عن أصواتهم الذاتية الضائعة في ضجيج مجتمع فقد بوصلته السياسية والاقتصادية وحتى الأخلاقية..إلخ.
ومن المؤكد أن قانون مدونة الصحافة والنشر أجاب على عديد من الأسئلة الشائكة المتعلقة بالصحافة الإلكترونية، لكن تبقى هناك عديد من أسئلة أخرى جوهرية.. كم كنا في أمس الحاجة إلى توسيع حلقات المشاورات في حينها مع مختلف الفاعلين للبحث عن أجوبة ناجعة ودائمة لها، حتى نحافظ على الإرث السابق... لكن ما حدث أن هؤلاء الرواد الأوائل الذين شيدوا صرح هذه الصحافة الإلكترونية اليوم وعبدوا طريقها وخلقوا الملايين من قرائها ومتلقيها باتوا هم آخر من يعلم، وأن زمرة الملتحقين الجدد الذين كانوا بالأمس القريب يستخفون بدور الإعلام الرقمي هم من أغلقوا الأبواب على أنفسهم ليستفيدوا اليوم لوحدهم من كعكة الصحافة الإلكترونية الواعدة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق