الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، فبراير 13، 2019

ياليل ياعين شيماء: عبده حقي





عدت من كازابلانكا إلى فاس بعد مشاركتي في ندوة (القراءة من الورقي إلى الرقمي) وكم كنت سعيدا جدا بالأجواء الرائقة التي مرت فيها الندوة وأجواء المعرض بشكل عام
التي تشي بتطورواضح في التنظيم والهندسة العامة ومحاور الندوات والتوقيعات .. إلخ لولا صدمة المطعم الذي نصبت له خيمة كبيرة وشاسعة بحجم خيمة قبيلة شرقية ليس لإنقاذ الزوار كتابا وقراء من صراخات بطونهم بل نصبت هذه الخيمة للنصب على كل من تجرأ على فتح فمه للمضغ وإسكات الأمعاء الفارغة ...
لم يكن فنجان القهوة الذي طلبته وعاء حقيقيا للقهوة بل لم يكن بداخله سوى (بصقة قهوة) ــ حاشاكم ــ لا أقل ولا أكثر لا يمكنها أن تفي بغرضي من احتسائها وهو طرد وسنات النوم عني في تلك الظهيرة الثقيلة ولذلك كنت مضطرا إلى إرجاعها إلى النادل وتعويضها بفنجان يليق بثمن خمسة عشر درهما .
عدت إذن على متن القطار تاركا ورائي في معرض النشر والكتاب عديدا من الأسئلة حول مستقبل هذا الكائن الذي أقيمت من أجله كل تلك المدينة الورقية ــ الكتاب (المقدس) ــ وما هو مصيره بعد عقد أو عقدين من الزمن بعد أن يصير السند الرقمي هو المسيطر على جميع المنصات والحوامل الإلكترونية ..
في إحدى المحطات صعد أحد المختلين عقليا واقتحم علينا المقصورة .. كانت ملابسه طبعا وسخة وشعره أشعث ويحمل في يده كيسا بلاستيكيا يبدو أن بداخله ملابس أخرى رثة ...
ولم يتباطأ هذا المختل ولو لبرهة حتى اقتحم علينا دردشتنا عن المال والعمل وآفة الرشوة والمحسوبية ..إلخ وكان من حين لآخر ينبس ببعض الكلمات الأنجليزية ويطلب من مرافقي شرحها بالعربية .. وكم كنت أشعر بالتوجس والترقب في تلك اللحظة خصوصا عندما صار يعطى في كل مرة مثالا في سياق حديثنا عن آلة السكين التي يمكن في رأيه أن نستعملها للأكل كما يمكن أن نستعملها للضرب والجرح ...
واستمرينا أنا ورفيقي في دردشتنا عن بعض هموم الحياة والوطن وكنا من حين لآخر نداري هلوسات ذلك المختل بهزات من رأسينا لكي نوهمه أنه على حق ولو أنه مختل وأحمق .. إلى أن وصلنا إلى محطة أخرى حيث قام وودعنا بابتسامة كاريكاتورية مشفوعة بعبارة أنجليزية ونزل ..
وصعد ركاب آخرون ودخل إلى مقصورتنا رجل كهل مرفوقا بزوجته وابنته التي كانت تضع ضمادة بيضاء على عينها اليسرى .. كان الأب يكثر من الحوقلة والتحسر بتنهيدات متكررة والأم غارقة في صمت رمادي حزين أما البنت اليافعة فقد ألقت برأسها على صدر أمها الحنون في حالة شبيهة بانهيار أمام قدرها العظيم ...
في تلك اللحظة غمرتني غيمة حزن دكناء لحالة البنت البئيسة وشعرت بسؤال شائك كان ينغل على طرف لساني لأعرف ما سبب تلك الضمادة ... وكان الأب قد انخرط هو أيضا معنا في دردشتنا وقد ألفاها فرصة ليفرغ ما في أحاسيسه عن متاعب التنقل وتردي المستشفيات العامة وبيزنيس المصحات الخاصة خصوصا أن مهنته لا يمكن أن تغطي حتى مصاريف قوته اليومية فما بالكم بالمصاريف الصحية الباهضة حيث أنه يبيع الخضر على متن عربة صغيرة من عجلتين فقط .
وأخيرا انفلت السؤال من عقال ترددي وسألته عن حالة البنت .. فحدثني عن سبب عاهتها حيث أنها تعرضت لسقطة عنيفة على جمجمتها مما أتلف شبكة عينها التي صارت جاحظة أكثر ومع مرور الأيام باتت العين العليلة غير مجدية وبات اقتلاعها هو آخر الحلول الطبية لتجنب مضاعفات أخرى خطيرة قد تؤثرعلى الشبكة البصرية كلها والدماغ بشكل عام .
لا أخفيكم سرا إلى أنه انتابتني نوبة حزن عميق وأنا أتخيل هذه الطفلة اليافعة والجميلة من دون عينها اليسرى في مجتمع أكثر شروره تأتي من طلقات عيون الفضوليين والرقباء والمخبرين .. في مجتمع ألذ ما يطيب لكثير من أغبيائه الضحك على التشوهات .. لك الله يا شيماء .  

0 التعليقات: