ألفاهم قد رتبوا في ليل غيابه اوراق رحيلها… أما
هي فقد باتت هناك في منسكها تغسل يديها من مكابدات العمر… متدثرة في استارتها البيضاء
المنسوجة بأنامل ملائكة مخفورة..
رأى من حوله أطياف متلفعة في دثارالبدء… ساحة محفوفة
بأشجار التين والزيتون .. نظرات للدهشة.. واللغط يعلو كلما دنا موعد العناق الاخير.كان
النداء بالاسماء اعلانا ليتمهم المؤجل.همس له جارقديم ( لاتكثرت بالفراق ، ففي تلك
الاكناف للسكينة خيمة بحجم السما
كانت أرواح الذين رحلوا مترجلين او على صهوات الفتوحات تتقد في ذاكرتها
وتفتح دفتيها على تاريخ مغسول بدم القداسة…
رنا الى الشارع الممتد أمامه في صمت رهيب.. أعمدة
النيون عقد متألق على هامة الفجر.. وجدها تعبر هذا الارتداد التاريخي وهو يلوح لها
بمديله عبر نافذة الإغاثة ويلاحق كالمخبول طيفها بالنظرة الواجلة.. حين صحا من دوخته
الفاها قد مرقت مثل نيزك في أمداء السماء.
في لحظة ما .. خفتت الجلبة.. الفجيعة التي نمجد فيها زمن الفراق.. وصارت بعدها كل المرئيات
تهفو الى التمثل بطيفها والبوح بأسمائه المتعددة.
عاد وحيدا يقطع البيداء في ليل الغياب.. وينحث تماثيل لرجال شيدوا جسرا
للبيت العتيق.. كان يحيى غربتين: غربته هنا وغربتها هنالك… كيف عن لجسدها الواهن أن
يركب هذا الجناح الواثق ويتركه لاستيهامات الارتياب على شرفة الإنتظار…؟
يذكرأنها كانت تنتفض بالهجران خلسة في فجر الاعياد
وحين كانوا يستفيقون بعدها يلفون فراشها مقصوص الجناح فيدرعون الدروب ويسائلون ابواب
الجارات عنها ثم يعودون وقد أيقنوا أنها قد اقتصت من سياط السقف بمكيدة الهروب…
كانت صورتها تؤاصره.. عمقها الازرق.. بريق نظارتها..
إهاب وجهها الذي تملى فيه معنى الكينونة…
ها هم الليلة جميعهم ينسجون حول طيفها حكايا رائقة
، يرفعون السماعة و يتوسلونها أن تغمرهم بصوتها الرؤوم.قد مضى شهر ونصف.. ما أقسى أن
يمرالعمر إلا شهرا ونصف.. جربوا فيه كل أنواع اليتم ورأوا كل تجليات الفقدان.ليلة عودتها
، بات مسهدا كان يحصي بالنبض دقائق اللقاء.. فجأة رن الهاتف وأنبأه صوت ما عن موعد
هبوط الطائرة . صعد الى السطح ليترقب سريانها .. فرأى الازل.. كل الازل المهيب.. الاسطوري
والغامض .. عتمة تطبق على حفافي المدينة.. كان في القلب شئ ما.. مثل لهاث دافئ عبق
بأرواح النزول من ملكوت مدارج البيت العتيق… احس أن كل الازل قد نهض من رقاده وتهيأ
له أنهم يرتعون خلفها في دروب السماء بأجنحة ملائكة صغيرة .. نورانيات وشفيفات.. يفتشون
عن طيفها بين نثار الكواكب والنجوم..صاروا يترنون بامعان.. هو وحده يداه مشتبكتين خلف
ظهره .. يقطع السطح جيئة وذهابا، كأنه أكتشف للتوهذا العالم الملغز بعيني صبي ممسوس
بالدهشة الآولى.فجأة لمح مقصورة مضيئة تخترق الديجور وكاد يهتف للعالم أي أنها نازلة
عبر درب الانبياءهذا إذا فجر آخر يزحف مسكونا بالأسرار…
انشق صدر السماء عن شعاع أبى إلا أن يترنم معه بالشدو
ويرجع بالغناء نشيده الصباحي.
شرعت الاطياف المتعبة تهل عليهم من البوابة العريضة
.. فجأة لمحها وشعر برغبة العمر الوحيدة في البكاء.. كانت رافلة في نصاعة المدارج السماوية
.. تجر خلفها تعب الوهن والرحيل .. قال في نفسه : ياه ما لوجهها قد صار قمحي الاهاب..
لعله لون البدء الذي ينشده صلصال الخلق .ضمها الى صدره ..ضمها كثيرا كثيرا و كانت نظراتها
هائمة في المرابع الخضراء.. وبيمينها سبحتها المرصعة بخرزات “الفيرونج” وهما يقولان
“سبحان الله”..سبحان الله..سبحان الله ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق