الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أكتوبر 28، 2019

«متاهة المكان في السرد العربي»… إصدار جديد للكاتب المغربي إبراهيم الحجري

الرباط ـ «القدس العربي»: صدر قبل أيام، عن منشورات دائرة الثقافة في الشارقة، سلسلة دراسات نقدية، كتاب جديد للناقد والروائي المغربي إبراهيم الحجري، اختار له
من الأسماء، «متاهة المكان في السرد العربي»، وتناول فيه تمثيلات المكان في السرد العربي عبر ثلاثة محاور، في المحور الأول، رصد صورة المكان في السرد العربي القديم من خلال نموذج (الرحلة)، وفي المحور الثاني، خص المكان في الرواية بالدراسة والتحليل، من خلال نماذج عربية شهيرة، أما في المحور الثالث، فقد عرض لبعض تمثيلات المكان في القصة العربية، من خلال نصوص مغربية استحضرت الفضاء المرجعي، بشكل من الأشكال، مع حفظ المسافة بين الواقعي والمتخيل في العملية الإبداعية.
لقد تعددت الأنواع السردية، وتطورت مع الزمن، وازداد وعي السراد بقيمة المكان، والفضاء مع الاهتمام المتزايد للدراسات الأدبية بالسرد ومكوناته، فانتقل الحديث عن المكان باعتباره مكونا في الخطاب، إلى اعتباره ركيزة أساس في تشييد الدلالة، والمعنى النصي الذي يريد الباث إيصاله لمتلقيه من خلال شيفرات المحكي، وبواباته، وعلاماته اللغوية والخطابية.
كان للعرب القدامى اهتمام بالغ بالمكان، لذلك، أفردوا له نوعا سرديا يكاد يكون لصيقا به، وهو ما سمي حينها بأدب الرحلة، وراكموا فيه ما لم يراكموا في غيره، وأبدعوا فيه ملاحم وتحفا يستعصي على الباحثين إحصاؤها عددا. وأتاح لهم هذا النوع، بوعي عميق منهم، التفنن في توصيف الأماكن، وتحديد شكلها وملامحها، وحدودها وصورها في حينها، فنقلوا إلينا، نحن المتأخرين عنهم بقرون، فكرة عن التحولات التي عرفتها تلك الأمكنة، ودرجة تطور العمارة والمنشآت العمرانية، وتوسع المدائن والقرى والآفاق، بل كانوا أحيانا، يسترسلون في ذكر ما كانت عليه قبل أن يعبروها، في عهود سابقة، من خلال اطلاعهم على ذلك في الكتب الرحلية الأسبق عليهم، أو من خلال ما سمعوه عنها من لدن التجار وهواة السفر!
ووظف السارد العربي القديم من أجل تصوير المكان، عدة وسائل وأدوات كانت متاحة في ذاك الزمن، مثل الوصف الشعري، وقياس الأبعاد والمسافات، ووضع الحدود الجغرافية، وتمثيل الحسن والقبح، وبيان أثر النظر إلى الأمكنة في النفس من مشاعر وأحاسيس، واستدعاء للمشابهة والتمثيل، وتفعيل لأدوات التعجب، والاستنكار، والسخرية، والمدح، وغيرها…
غير أنه ينبغي الإشارة إلى كون الأمكنة المقدسة (مكة المكرمة، المدينة المنورة، القدس)، والأماكن الزيارية (قبور السلف، المزارات، الأضرحة، الزوايا)، والأماكن العلمية (بيوت الشيوخ، دور العلم، الجوامع، الكتاتيب) أكثر الفضاءات إثارة لاهتمام السارد العربي القديم (الرحالة خصوصا)، لذلك، كان يخصص لها، ضمن مكتوبه، حصة الأسد، مبرزا تدفق أشواقه لها في كل حين، وانسياب دموعه لفراقها!
وعندما فتح السارد العربي عينيه على السرد الحديث (الرواية والقصة)، لم يجد نفسه غريبا في هذا المجال، وقد أرسى تراكما كبيرا، وذخيرة لن تمحى مع التاريخ (رحلات، ليال، أسمار، مقامات، مجالس، سير وعبر، تاريخ متخيل وواقعي، أخبار وأيام ووقائع، حكايات شعبية)، فراح يستثمر هذا الجانب الثري في إبداع تمثيلاته للمكان السردي المتخيل، مازجا بين تخييل المكان في المتراكم المحصل، وتخييل المكان الواقعي المعيش، ليقدم للمتلقي، في نصوصه السردية والروائية، وصفة مثيرة لها سحرها الخاص، وميزتها العربية الأصيلة.
لقد كانت طبيعة المشاعر فيصلا في إبراز الصورة التي يظهر عليها المكان في السرد، فإذا كان مزاج السارد صافيا، رأيناه يتفاعل مع المكان إيجابا، فيجليه في أبهى حلله، وإن كان متوترا، أسقط توتره عليه، فصوره في أبخس الصور، وكأنه المرآة التي تنعكس عليها صورة روحه، وجلاء نفسه.
وفي الأنواع السردية الجديدة، بات السارد العربي ينتدب المكان، بوصفه علامة دالة وحاملة لمعنى، لقول ما يريد قوله، وليفصح عما لا يستطيع الإفصاح عنه بلسانه، فشخصنه، وأنسنه، مثلما فعل الشاعر العربي تماما، وجعل منه شخصية وفاعلا يتحركان في العالم السردي، يخلخلان العناصر السردية، ويدفعان بتأزيم الحبكات، ويسهمان في خلق جدلية الحوار والحجاج والإقناع إسهاما! وكأن المكان طغى، وساد، فأخفى ما دونه، وعنه بالنيابة نطق!

0 التعليقات: