الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 07، 2020

نحو متخيل رقمي من كوكب المعلومات إلى النشر الرقمي للأدب عبده حقي


الاختلاف بين المتخيل والواقعي يمكن رصده بسهولة في الفضاء الرقمي. بل يمكن أن نجد صلة وثيقة بين هذه الفكرة والممارسة الرقمية : ليس لأنها محفز للثقافة الرقمية فحسب، ولكن أيضًا لأن هذه الأخيرة هي عامل محفز لهذه الفكرة. ويمكن اعتبار هذه العلاقة المزدوجة بين الأفكار والواقع التقني الذي تولده ويولدها كوصمة عار في رأي أوليفييه داينز.

هذا هو السبب في كون المفاهيم التي تم تقديمها قبل انتشار الويب لا تشكل عناصر من الثقافة الرقمية، وإنما يجب فهمها في إطار علاقة ديناميكية مع الحقائق الفنية: إنها شرط الممكن ولكنها النتيجة أيضا، فهي تأتي في نفس الوقت من قبل ومن بعد. وبهذا المعنى نقترح هنا على الأقل تفسيرا ل"أنطولوجيا الراهن " كما قدمها ماوريتسيو فيراريس.

إن مفهوم "كوكب المعلومة infosphère " كما وصفه لوسيانو فلوريدي يبدو عبارة عن نموذجً لاستحالة تعارض المتخيل والواقعي. في إشارة إلى عبارة هيجل الشهيرة "كل ما هو عقلاني هو واقعي وكل ما هو واقعي عقلاني" يقول فلوريدي: لا تعني هذه العلاقة بين الواقع وكوكب المعلومة أولوية المعلومة على الواقع مثلما قد توحي بذلك مقولة هيجل وإنما استحالة التمييز بين الاثنين بعبارة أخرى وبتفسير واقعي للأنطولوجيا المثالية لهيجل. وللبرهنة على استحالة هذه التفرقة سنعطي مثالا بتطوير شبكة الموضوعات: سيكون من الخطأ التأكيد على أن المعرف الوحيد لموضوع ما أو ما يسمى ب URI أي "Uniform Resource Identifier"على الويب تمثيل أو تقليد لهذا الموضوع كما سيكون من الخطأ كذلك الاعتقاد بأن التمثيل الرقمي للموضوع هو ما يبنين وينتج معنى لذلك الموضوع في الفضاء اللارقمي . المعرف يمتلك قدرة إجرائية على الموضوع، بحيث يصبح هو الموضوع نفسه. يتجلى هذا بشكل خاص عندما نقوم بفحص على سبيل المثال أنظمة توزيع المنتجات وتطورها السريع: مثلا إن طلب كتاب اليوم على موقع أمازون واستلامه في المنزل في نفس اليوم لا يتطلب أي إجراء بشري تقريبًا - بل ربما سيتطلب في المستقبل وقتا أقل من الوقت الحالي. يتم تعريف كل منتوج بمعرف وحيد يمكن تشغيله على الشبكة وهذا التشغيل يؤثر بشكل مباشر على المنتوج نفسه. مثلا أقوم بالنقر على كتاب موجود على موقع أمازون ويقوم الروبوت بالبحث عن هذا الكتاب في أحد المستودعات ثم يودعه على طائرة "درون" بدون طيار التي تقوم بدورها بتسليمه لي في عنواني الشخصي. هذا ما يسمح لنا على سبيل المثال بمعرفة أن الكتاب المخزن في مكتبتنا هو "نسختنا" الخاصة ويمكن استبداله إذا كان معيبًا. يمكن أن نفكر أبعد من ذلك: ما يمكن أن يقوله المستخدم عن كتاب على سبيل المثال في تعليق قد يؤثر بشكل مباشر على الكتاب الذي يتقاسم مع التعليق نفس الفضاء الافتراضي - فضاء المعلومة، وفضاء النص حيث يوجد URI وبالتالي الموضوع والتعليق على الموضوع وكذلك الخوارزمية التي تتناول إدارة المشتريات والتسليم.

ليس هناك فرق بين الكتاب وعنوانه URI الخاص به وبالتالي المعلومات المتعلقة بذلك العنوان. تجدر الإشارة أيضًا إلى أن عنوان URI لا يشير كاسم إلى مجموعة من الموضوعات: إنه يشير إلى موضوع معين. بمعنى آخر لا يشير عنوان ويب URI إلى "الحصان" - الكوني بالمفهوم الأرسطي - ولكن إلى هذا الحصان.

مما لا شك فيه أن دريدا قد يسألنا: ألا يكون اختزال الواقع إلى معلومات فعلا أفلاطونيًا والرقميًة وفقً هذا النموذج كلًا مشفرًا يحدد بشكل إلزامي حالة الواقع لكل عنصر متاح ومستهدف من طرف ثالث في تفكير قصدي أو ممارسة خطابية ؟ كل موضوع يتوافق مع تفرد يسمح بتعريف متفرد وهذا يثير مفهوم لايبنيز "مبهم" والذي يتوقع كل نموذج رقمي من خلال الطرح القائل بأن الأفراد لديهم حقيقة تتجاوز كل تلك المفاهيم العامة التي يمكن إدراكها : لن يكونوا سوى تسميات . لقد كان السؤال بالطبع واضحًا في العصور القديمة: قديما قيل: "إننا لا نسبح أبدًا في نفس النهر" أليس هناك أخيرًا فكرة عن الغبار والأوساخ؟ يسأل سقراط محاوره السفسطائي، ومن جهته يشير فنان أبيقوري إلى هذه الحقيقة الواضحة: الإصرار على محاولة التفكير في التفرد ليست بالأمر الجديد. لكن اليوم يمكن للأدب الرقمي أن يجسد هذا التصميم الأدبي العظيم الذي يكرس بطبيعة الحال من أجل إعطاء معنى للتفرد على سبيل المثال المشروع الأدبي لأوفيد Ovid.

لم يعد من اللائق فصل الخطاب باعتباره تمثلا لنفس عالمه الواقعي لأنهما هجينان معا في النهاية. وبنفس الأسلوب، فإن غياب فصل بين الرمزي واللارمزي يمنعنا من التفكير في القطيعة بين المتخيل والواقع وهذا المعنى يلزمنا بإجبار دريدا على جعله يتجاوز الرمزي. وللاهتمام بهذه البنية يمكننا الاعتماد على مفهوم النشر الرقمي "éditorialisation" الذي يعني مجموع الوسائل والأجهزة التي تساعد على إنتاج محتوى في الفضاء الرقمي مع الأخذ بعين الاعتبار الاندماج بين الفضاء الرقمي والفضاء غير الرقمي، وهو الاندماج الذي يعني ضمنيا استحالة اعتبار الموضوع الرقمي مظهرًا من مظاهر موضوع غير رقمي لأن الاثنين معا يمكن اعتبارهما ينتميان إلى نفس مستوى الواقع.

يمكن تعريف النشر الرقمي على أنه "مجموعة من الديناميات التي تنتج وتبنين الفضاء الرقمي. هذه الديناميات هي تفاعلات الممارسات الفردية والجماعية في بيئة رقمية خاصة. بعبارة أخرى، يمكن القول أننا لا ننشر رقميا المحتوى فحسب بل إننا نقوم بنشر الموضوعات نفسها. باستطاعتنا نشر مدينة، شخص، شيء.. إلخ: إننا ننشر رقميا من خلال علاقة ما وبالتالي إنتاج فضاء. إن ممارسة التفكير في إنتاج المحتوى الرقمي كفعل لإنتاج الفضاء يسمح لنا بتجاوز التعارض بين المتخيل / الواقع. الممارسات والخطابات والتقنيات التي تندرج في فعل النشر الرقمي تشتمل على تنسيق لفضاء واقعي تماما بما في ذلك الفضاء الذي نعيش فيه.

لقد تم تشكيل كل شخص على شكل بروفايل قبل كل شيء من خلال لعبة تحديد موقعه على الخريطة، وتعيين عنوان له، وبعد عرضه على منظر الشارع، يتم اختراع هويته ، وخاصيته ، وصورة وجهه ... ثم بعد ذلك يتم إعادة دمج هذه التعاريف الشخصية على الخريطة، مضافة إلى جميع البيانات والآثار الرقمية الأخرى التي يتم تفسيرها وحسابها الآن بواسطة خوارزميات الويب. إن البعد السياسي لمقاولة الكتابة الجماعية واضح وملموس هنا: كما تؤكد ذلك سيسيل بورتييه ، يتعلق الأمر بمسألة "لعبة المضخة المرشوشة ، واستعادة كتابة آثارنا التي تلائم الأنظمة الإحصائية على الويب شيئًا فشيئًا بهدف تحويلنا إلى كائنات بيانات قابلة للحساب ويمكن التنبؤ بها . عند القيام بذلك، تضيف الكتابة - حتى المتخيلة منها – تجمع آثارًا إلى آثارنا، وتشارك بشكل كامل في النشر الرقمي للفضاء: على سبيل المثال باريس - المدينة الواقعية - المتعددة، فهي في نفس الوقت متوالية من الآثار (والتجارب الأخرى التي تحدد على الخريطة المدينة في إطار المتخيل) وكذلك الأسوار والشوارع والمنازل أو الرؤية التي يمكن للسائح الضفر بها. هذا التعايش بين مختلف مستويات التفكير التي ينطلق بعضها من المتخيل (بمعنى ما يرتبط تقليديا بالمتخيل) وغيرها مما يسمى بالبيانات "الواقعية " (هذه هي حالة رسم الخرائط) الذي يخضع إلى بنية نسميها صورة بصرية مشوهة. في الوقت الذي يبرز فيه الفعل الرقمي عدم أهمية التعارض بين الواقع والمتخيل، يكون الأدب مدعوا للعب دور أساسي. يبدو في الواقع، أكثر من أي وقت مضى، مادة لبناء الواقع، حيث يحول المؤلفين والكتاب في الوقت نفسه إلى مهندسين لفضائنا. في هذا الصدد، فإن اهتمامهم المتزايد ببرمجيات الخرائط يستحق المزيد من الفحص والتحقيق. لأنه إذا كانت ميزة "التجوّل الافتراضي" و"خرائط غوغل Google maps" تُفسح المجال أيضًا للتحويل الفني (بالإضافة إلى المؤلفين والكتاب فإن الفنانين أيضا يستثمرون كثيرا في هذه البرمجيات) ذلك لأنها تعتبر من بين الأدوات الرقمية التي تنمي هذا الفكر "الضد - ثنائي" الذي تحدثنا عنه حتى الآن. إضافة إلى هذه الوظيفة السياسية التي لاحظناها سابقًا، يضيف تحويل هذه البرامج وظيفة شعرية وجمالية استنادًا إلى هذه البنية الصورية التي سنعمل على وصفها الآن.

بنية الصورة المشوهة للواقع: في حالة غوغل Google Street View

لقد وفرت لنا الرقمية أدوات جديدة من أجل العيش وتصور أي منطقة جغرافية وتصاميمها، بغية التجوال الافتراضي فيها وملاحظتها. إننا نقول "الرقمية" ولكن لا يمكننا تعيين غوغل بشكل أكثر تحديدًا، نظرًا لأن من بين أدوات مشاهدة المنطقة الأكثر شهرة والأكثر شيوعًا، نجد خرائط غوغل وغوغل كوكب الأرض Google Earth وبالطبع غوغل مشاهدة الشارع Google Street View التي أحدثت ثورة في حياتنا اليومية من خلال الجمع بين رسم الخرائط مع الصورة الفوتوغرافية. وعلى الرغم من مظهرها المذهل، فإن هذه الوسائل ليست بأي حال من الأحوال اختراع التكنولوجيات الرقمية حيث الإمكانات التقنية زادت من النتيجة النهائية عشرة أضعاف.

في القرن التاسع عشر أتاحت البانوراما والأفلام الجغرافية للمشاهدين مواقعً جغرافية شاملة مما أدى إلى إنعاش تخيل تمثيل الأرض. ومن خلال هذا التخيل القديم تمكنت غوغل من تطوير خدماتها: "لقد اكتشفنا المواقع العالمية الشهيرة والعجائب الطبيعية وقمنا بزيارة متاحف كما لو أن ذلك كان حقيقيا، وزرنا ملاعب، مطاعم، متاجر ومقاولات صغيرة، وذلك بفضل صور 360 درجة لخرائط غوغل وميزة التجوّل الافتراضي."

من أجل التفكير في الرهانات السياسية للنشر الرقمي الأدبي .

بمجرد أن نتخلى عن ثنائية المتخيل / الواقع، يصبح الأدب وسيلة للنشر الرقمي للعالم الذي يمتح منه محتواه ، تمامًا مثل أي شكل آخر من أشكال الكتابة على الإنترنت. إن إنتاج صورة بصرية وبعيدا عن كونها تشكل تمثيلا مشوها للعالم تكشف عن مزيجً من الطبقات الأنطولوجية التي من خلالها ينبثق العالم في تعدده واختلافه.

على غرار ذلك فإن الأدب يشكل أحد المواد المعمارية التي شيد عليها الواقع الجغرافي. إن الكاتب من جانبه يلعب دور المهندس المعماري وهي وظيفة تقوم على مسؤولية سياسية حقيقية: إذا كان فضاء ما مثل منطقة باريس أو مرسيليا في هذه الحالة التي هي نتيجة للبناء الذي شاركت في تشييده مشاريع أدبية مثل (قصة كورتازار ودانلوب أو قصة بيير مينارد وآن سافيلي) فكيف تمكن الأدب في أن يساهم في أن يجعل من هذا الفضاء مساحة عامة ؟

تشكل اليوم الوسائل الرقمية كما نعرفها مخاطرة كبيرة: بناء الفضاء الرقمي - وبالتالي إنتاج الواقع – الذي يتم تركه لعناية حفنة من الشركات التي تعمل بمنطق احتكاري لا جدال فيه مثل شركة غوغل التي أشرنا إليها سابقا في هذه المقالة والتي لها أهمية خاصة في هذا الصدد . وبهذا المعنى يقدم الأدب استراتيجية بديلة لاستيعاب الفضاءات التي شيدها هؤلاء اللاعبون الرئيسيون. وبالتالي فهو يعتبر فعلا من أفعال المقاومة.

بطبيعة الحال إن تكريسها يأخذ قوته بالتواطؤ مع القراء قد تبدو هذه المقاومة بواسطة الحرية مجانية وبدون وزن خاص في عالم الموضوعات المتصلة بالويب. ومع ذلك، يبدو أنه قد أوضحنا بما فيه الكفاية أن الحتمية التقنية ليست هي العامل الوحيد في تحول العالم، وعلاوة على ذلك، فإن إمكانيات الاستخدام التي أصبحت متاحة لملايين الناس تجعل التجارب الأدبية بواسطة الكثير من الموارد المتاحة خاضعة للسؤال عن الوجود المعاصر. هذا هو البعد التجريبي غير المكتمل من حيث المبدأ والمنفتح على جميع التحولات المحتملة التي سيتم تصورها من خلال مقاربة الأعمال الأدبية. وهذا هو السبب في الواقع الذي يجعل بدلاً من تكرار الثنائيات المختلفة دون تفكيكها يبدو من الضروري أن نتناول الأدب عبر التجارب التي تدمج الفئات المستعملة، والتي غالباً ما تظل من دون مساءلة.

لا يمكننا التحدث عن شيء واقعي ولا عن كائن ما. ولا يمكن أن نتحدث عن تعارض لعدة مستويات أنطولوجية تراتبية - المتخيل والواقع والرمزي واللارمزي . إن الانصهار بين هذه العناصر المختلفة - التي يأتي تعريفها فقط من النقد الأدبي - يؤدي إلى وجود متعدد وحقائق متعددة التي تنشأ على قدم المساواة. هناك عدد كبير من الأشكال الأصلية التي تتحول إلى العالم - إذا كان استخدام المفرد لا يزال له معنى. هذا التعدد هو في الأصل الأداء ويتضمن حركات النشر الرقمي؛ هذه الإيماءات هي الفعل الأدبي. إلى جانب عمالقة مثل غوغل الذي يفرض نفسه كمهندس لبنية الفضاء الذي نعيش فيه - هناك هيئات أخرى للنشر الرقمي ينتمي إليها الأدب. وبالتالي فإن الكاتب - كما قال فاليري هو مهندس للواقع أيضا.

Vers un imaginaire numérique

De l’infosphère à l’éditorialisation littéraire

 

Servanne Monjour

Marcello Vitali Rosati

Gérard Wormser

Le fait littéraire au temps du numérique Pour une ontologie de l’imaginaire

 

0 التعليقات: