وفي الغياب يستبد الفراغ. أنت تفتقد كائنًا واحدًا فقط ويتم إخلاء كل شيء. هذه الكلمات، الصادقة بلا حدود، تنسج خيوط وجودي عندما يختفي حضور حبيب من حياتي. صدى غيابه يتردد في أصغر خبايا روحي، فيمحو لون الحياة النابض ليترك فراغا لعالم مشوب بالكآبة.
من الصعب وصف ثقل هذا الغياب، مثل شهاب يعبر سماء كياني، تاركًا وراءه أثرًا من الذكريات المتلألئة. كل ضحكة، كل نظرة عارفة، كل لفتة مشبعة بالحنان يتردد صداها في الصمت، مثل لحن جميل يهز أفكاري.
الغياب ليس مجرد
مساحة زمنية فارغة، بل هو حضور لا يزال يسكن كل ركن من أركان وجودي. تصبح الذكريات
كنوزًا ثمينة، وأجزاء من السعادة أعتز بها بحنان. تصبح كل لحظة مشتركة بقايا، كنز
لا يقدر بثمن أحتفظ به ثمينًا في متحف قلبي.
نسيج أيامي مشوب
بهذا الفراغ، كما لو أن لوحة قد جُردت فجأة من طاقم لوحتها. تتلاشى الألوان، وتفقد
النكهات بريقها، وتبدو المسارات المألوفة فجأة مليئة بالمزالق.
ورغم في ظل هذا
الغياب، تظهر مفارقة مؤثرة. لأنه في غيابها تتجلى قوة حضورها. يبدو أن كل ركن من
أركان حياتي يحمل ظلها ، صورة تحوم بلطف فوق أفكاري، وتغمرني بالدفء في لحظات
العزلة.
هناك قوة
متناقضة في الغياب، قوة تدفعني إلى إعادة اكتشاف عمق الروابط التي كانت تجمعنا.
تصبح كل ذكرى منارة في الليل، تنير طريق أفكاري، وتعيد إحياء المشاعر والدروس التي
تركها هذا الحضور الجميل.
الأماكن التي
كانت تشهد همساتنا وضحكاتنا، أصبحت الآن مشبعة بهالة خاصة. كل زاوية شارع، كل مقعد
في حديقة، كل ركن هادئ من الطبيعة يحمل في داخله صدى محادثاتنا، نفخة ضحكاتنا،
الأثر الذي لا يمحى لتواطؤنا.
وعلى الرغم من
هذا الألم المؤثر، إلا أنني أستمد قوة غير متوقعة من هذا الغياب. يصبح المحرك
للتأمل العميق، ومرآة تعكس لي صورة ما كان وما بقي ليتم بناؤه. يصبح كل يوم لوحة
بيضاء حيث تتم دعوتي لرسم تجارب جديدة، وذكريات جديدة، مع الحفاظ بغيرة على تلك
التي جعلت وجودي غنيًا.
يدفعني الغياب،
القاسي، إلى تذوق كل لحظة حاضرة، والاعتزاز بكل لقاء، وكل ابتسامة، مدركًا زوال
هذه اللحظات الزائلة.
هناك جمال متفرد
في هذا الألم، جمال مصنوع من الامتنان العميق لكل ما كان ولكل ما سيأتي بعد. لأن
الغياب، بعيدًا عن أن يكون غاية في حد ذاته، يصبح أرضًا خصبة للمرونة والذاكرة
والحب الدائم.
تصبح العزلة
التي تلي هذا الغياب مكانًا مقدسًا، وفرصة لإعادة اكتشاف جوهري، وإعادة الاتصال
بعواطفي، وأحلامي، ولتقوية نفسي أثناء انتظار لم الشمل الذي سيدفئ قلبي.
في الغياب نفسه،
فهم أعمق لقيمة العلاقات الإنسانية، والحاجة إلى الاعتزاز بكل لحظة، وقول
"أنا أحبك" دون ضبط النفس، لأن الغد ليس مضمونًا أبدًا.
وهكذا، في مسرح
الغياب هذا، أصبح ممثلاً ومتفرجًا في نفس الوقت. ممثل في إعادة بناء نفسي، متفرج
يتأثر بالذكريات التي تمر، والعواطف التي تتصاعد، والدروس التي تُكتب على مر
الأيام.
من خلال الغياب،
أكتشف الثراء الذي لا يقاس لما كان، وما هو كائن، وما سيكون. وأجد نفسي أقدر
سيمفونية الذكريات، وأعتز بالغياب ذاته الذي، للمفارقة، يساعدني على تقدير الحضور
بشكل أفضل بمجرد ظهوره مرة أخرى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق