الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، فبراير 06، 2024

ماكياج الحرباء : عبده حقي


اسمها، لو كان لها اسم، ضاع في متاهة الأحلام والكوابيس. كانت تجول في الأزقة والجادات، صورة ظلية على خلفية نهارها العبثي. كل خطوة تخطوها كانت ترسل تموجات عبر خارطة العالم، وبدا أن الهواء نفسه يتلون عند حضورها.

عيناها، بركتان من الزئبق ، تحملان أسرار المجرات المنسية. تتغير ألوانهما مثل السماء المتقلبة باستمرار، مما يعكس الأبراج الفوضوية لعقلها. قال البعض إنها كانت مشعوذة في ساحة الأوهام، وساحرة تنسج التعاويذ بخيوط الوهم.

في حارتنا، حيث كانت الأبواب تتباهى في نسق من الألوان وتمزقات الصرير، كانت تقف كأنها لغز. كان جلدها، قماش أثيري، يحمل وشوم قصص لا توصف. زينته الرموز والعلامات المرسومة بألوان تتحدى الأصباغ الأرضية، وتحكي حكايات العصور المنسية والأبعاد المتوازية.

تحدث عنها الأهالي بصوت خافت، ونسبوا إليها نوعًا من الجنون الغامض. قالوا إنها كانت تتحدث مع أرواح الريح، وتستشير أشباح الأقبية المعتمة، وترقص تحت ضوء القمر مع مخلوقات فضائية لا وجود لها إلا في أحلام الشعراء وروائيي الخيال العلمي.

لكن هل كانت حرباء حقًا ؟ أم أنها كانت من نسج خيالنا الجمعي، أم أنها حيوان سرابي انزلق بغتة من بين أصابع من حاولوا فهم جوهرها؟ أو لعلها كانت مظهراً من مظاهر شوق المدينة إلى فتنة السحر، ورمزاً للشوق إلى اللاعقلانية المشتهاة في عالم يسعى إلى القياس والتصنيف.

في أحد الأيام، تجرأت على الدنو منها. كانت تتجول في شوارع المتاهة، لا تسترشد إلا بهمسات الريح والجرافيكات المبهمة المحفورة على الجدران. وعندما وقفت أمامها أخيرًا، وجدت نفسي متورطًا في محاليق تمظهراتها.

حدثتني بلغة تتخطى كل اللغات، سيمفونية همسات ترددت أصداؤها في أركان روحها المنسية. رسمت أصابعها مجسمات في الهواء ومداخل إلى عوالم مجهولة. بدا أن المدينة من حولنا باتت تتلاشى، ووقفنا على شفا مشاهد من الأحلام.

تجولنا معًا عبر مناظر طبيعية تتحدى الهندسة والمنطق. عكست الجبال المصنوعة من البلورات الصور المتكسرة لآلاف الاحتمالات. وتدفقت أنهار من الضوء القزحي عبر أودية المستحيل. كان الهواء نفسه ذا طعم شهي، والوقت يرقص على أنغام لحن لا يسمعه أحد من الكائنات سوانا.

وبينما كنا نسافر عبر هذه المشاهد السريالية، تلاشت الحدود بين الواقع والخيال. أصبحت المرأة ذات الجمال الحربائي مرآة تعكس رغباتي ومخاوفي. في حضورها، أصبح اللاعقلاني نسيجًا للمعنى، فوضى تهمس بحقائق لا يستطيع فك شفرتها إلا القلوب القوية.

وهكذا، مشينا على حبل مشدود بين العوالم، واحتضنا اللايقين في الوجود. المدينة بزواياها المنسية وأسرارها الهامسة شاهدتنا ونحن نذوب في ضباب المجهول.

كنت رفيقها الباحث عن الحقائق الملتفة بالألغاز .. أسير بجانبها .. تتردد خطواتنا في أروقة التجريد والغموض.

اجتازنا تضاريس تتحدى الوصف - غابات تتمايل وتدندن فيها الأشجار بألحانً قديمة، وتترجم أوراقها قصصًا منسية؛ صحارى رسم فيها السراب أوهام الرغبات المنسية على الرمال المتحركة. كان الهواء يتطاير من طاقة المجهول، وبدا أن الأرض نفسها تحت أقدامنا كانت تنبض بنبض قلب كيان الكوسموس.

وبينما كنا نتعمق في نسيجنا السريالي هذا ، أومضت المرأة مثل لهب اشتعلت فيه الريح. لقد أصبحت جوقة لا تحصى من النساء، كل واحدة منهن هي انعكاس للأحلام والكوابيس الكامنة في أعماق النفس البشرية. وفي لحظة ، صرن أشباحا بأجنحة من الظل ثم صفارات إنذار بشعر مجدول من ضوء القمر المنسكب.

شككت وأنا مخمورا بالسيمفونية السريالية المحيطة به، في طبيعة سعيهن. "من أنتن؟" سألت، وصوتي همس تحمله نزوة النسيم.

وجاء ردهن في مجزوئات من النثر، لغزا منسوجا في النهار المتقلب باستمرار. "نحن صدى الحكايات المنسية، الصور الظلالية في محيط وعيك. أسماء مجرد أوهام، ونضفر جدائل رقصة الأوهام."

وصلنا إلى مدينة داخل مساحة هندستها المعمارية عبارة عن مزيج من الأساليب التي تمتد عبر القرون والحضارات. أبراج من الكريستال تتصاعد نحو السماء، وجسور من الضوء تربط جزر الإمكان العائمة. كانت المدينة تنبض بالأحلام الجماعية لأولئك الذين تجرأوا على المغامرة في عوالم المجهول.

وفي الأغورا ، صادفنا مكتبة تحتوي على مجلدات منقوشة برموز تفوق الفهم اللغوي. وصلت إلى مجلد، وعندما فتحت صفحاته، قفزت الكلمات من الرق، ودوّمت حوله مثل اليراعات الأثيرية.

كل جملة كانت تحمل ثقل الكون، والفقرات تهمس بأسرار يتردد صداها في روحي. رأيت الحقائق بديلة، ولمحات من عوالم يتدفق فيها الزمن إلى الوراء . قادتني المرأة، التي أصبحت الآن شبحًا من الضباب المضيء، عبر أروقة المعرفة.

أصبحت المكتبة ركنا للحكمة الفوضوية التي تكمن عند تقاطع الأحلام والواقع. لقد فهمت أن الحرباء ذات الجمال القزحي هي مرشدتي إلى المساحات الحدية، وحارسة للعتبات حيث يجتمع المعنى والجنون.

عندما خرجت من المكتبة، احتضنتني المدينة السريالية مرة أخرى. أدركت أن رحلتنا كانت عبارة عن استكشاف دائم لما هو غير عقلاني، ورقصة مع المجهول أدت إلى اكتشاف الحقائق المخفية وسط الفوضى.

 

0 التعليقات: