الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أبريل 13، 2024

مكاشفات : (3) عبده حقي


41

لقد أصبح الوقت نفسه مجرد تجريد، وهو عبارة عن سلسلة متصلة متدفقة يلتقي فيها الماضي والحاضر والمستقبل في مشهد من الذكريات المجزأة والرؤى النبوية. وسط نسيج الوجود الكوني، عبرت المناظر الطبيعية في نفسي، وواجهت أصداء ذوات منسية وهمسات طيفية لما كان يمكن أن يكون.

42

في نسيج كياني، تتشابك خيوط الحزن والفرح، لتنسج سيمفونية من المشاعر التي يتردد صداها في أروقة روحي. كل بذرة هندباء، هي جزء من جوهري، تحمل معها صدى أمنية غير معلنة، وشوقًا مدفونًا تحت طبقات الوعي.

43

وبينما كنت أتعمق في متاهة عقلي، واجهت مناظر طبيعية سريالية تحدت قوانين المنطق والعقل. ارتفعت جبال الأحلام البلورية مثل الأبراج المسننة على قماش اللانهاية، بينما كانت أنهار ضوء القمر السائل تتدفق إلى هاوية النسيان.

44

وسط هذه الأوهام من الصور، واجهت كائنات غريبة تسكن في المساحات الحدية بين الواقع والوهم. كانت الأشباح الأثيرية ذات العيون مثل المجرات تحدق بي بمعرفة تتجاوز الفهم الفاني، وهمساتها تتردد في حجرات ذهني مثل نفخات النجوم البعيدة.

45

في قلب هذا المشهد السريالي، وجدت نفسي في مواجهة شظايا وجودي، متناثرة مثل شظايا مرآة محطمة عبر فسحة الأبدية. كل تأمل، وجه من وجوه كياني، يهمس بأسرار الحقائق المنسية والألغاز التي لا توصف.

46

وهكذا، وسط الفوضى والجمال، أسلمت نفسي لتيارات القدر، وسمحت لبذور الهندباء بأن تحملني إلى الأمام نحو الأفق المجهول. ففي أحضان السريالية، وجدت العزاء في معرفة أنه حتى وسط الظلام، هناك بصيص من الضوء، منارة أمل ترشدنا عبر متاهة الوجود.

47

في الملاذ الهادئ للحظات المنسية، حيث همسات الحنين تتردد كأصداء في حجرات القلب، توجد صورة فوتوغرافية، من بقايا الأيام الماضية، حيث تتدلى الابتسامات في وهج العنبر من درجات اللون البني الداكن.

48

في إطاره المتقلب، يتوقف الزمن، كما لو كان محاصرًا داخل حدود لحظة عابرة. يتردد صدى ضحكات الأمس عبر الأثير، وهي سيمفونية فرح منسوجة في نسيج الذاكرة.

49

في أنظار تلك الأرواح المأسورة، أرى أصداء انعكاسي، لمحة عابرة عن ذواتي التي عرفتها من قبل. كل ابتسامة هي شهادة على جمال اللحظات العابرة، وكل نظرة هي نافذة على أعماق التجربة الإنسانية.

50

عندما أتتبع ملامح تلك الوجوه ذات اللون البني الداكن، يتم نقلي عبر أروقة الزمن، إلى عالم لا يوجد إلا في تجاويف الذاكرة. هناك، وسط الضحك والدموع، أجد العزاء في معرفة أنه حتى مع مرور الوقت، تظل بعض الأشياء أبدية.

51

لأنه في قلب تلك الصورة المنسية تكمن حقيقة خالدة مثل النجوم نفسها: أنه داخل ألوان الذاكرة ذات اللون البني الداكن، يتردد صدى أصداء ماضينا إلى الأبد، لتذكرنا بجمال اللحظات العزيزة والذكريات التي خلدت.

52

تحت الحارس القديم، شجرة الصفصاف، وجدت الأحرف الأولى من اسمنا، محفورة في اللحاء، شهادة على وعودنا، وعهودنا، وأحلامنا. كانت الرسائل، على الرغم من مرور الزمن، جريئة وحازمة، وإعلانًا صامتًا عن رباطنا.

53

وكانت الشجرة بأغصانها المتدلية وأوراقها الهامسة شاهدة على اتفاقنا. لقد وقفت كحارس صامت لوعودنا، وجذورها تغوص في أعماق الأرض، وكأنها ترسخ عهودنا في جوهر الوجود.

54

كانت الأحرف الأولى من اسمنا، المتشابكة في اللحاء العقدي، أكثر من مجرد رموز. لقد كانوا ختمًا، وميثاقًا، وعقدًا ملزمًا يتجاوز العالم المادي. لقد كانت شهادة على رحلتنا ونمونا وتطورنا.

55

لم تكن الوعود التي قطعناها من النوع العابر، الذي همسنا به في حرارة اللحظة، لتحمله رياح التغيير. لا، لقد كانت أبدية، باقية مثل الشجرة نفسها، خالدة مثل النجوم التي تراقبنا.

 

 

56

لم تكن وعودنا مجرد كلمات، بل أصداء لأرواحنا، يتردد صداها في سيمفونية الوجود الصامتة. لم تكن مجرد عهود، بل كانت جوهر كياننا، جوهر وجودنا.

57

تحت شجرة الصفصاف، قمنا بنحت أكثر من مجرد الأحرف الأولى من اسمنا. لقد نحتنا أحلامنا وآمالنا ومخاوفنا. لقد نحتنا ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا. لقد نحتنا جوهرنا، روحنا.

58

وهكذا، تحت شجرة الصفصاف، وسط همسات الأوراق وأغاني النجوم الصامتة، ختمنا وعودنا للأبد. ليس بالحبر أو الورق، بل بنسيج كياننا، بجوهر وجودنا.

59

همس الريح المملح، ذكرى محفورة في الضباب. عظامي، برج هيكلي في مواجهة بطن العاصفة المجروح، لا تحمل لهبًا، ولا تقدم أي عزاء. ومع ذلك، فإن النوارس تنادي باسمي، جوقة من الضائعين، ترسم أجنحتها اللمعان الوهمي الذي نزف ذات مرة من عيني الزجاجية المكسورة.

60

المحيط، وحش لا يهدأ، ينخر مؤسستي، ويمتلئ فمه بوعود النسيان الهامسة. لكنني أقف شظيةً متحدية في وجه غضبها المتماوج. يسمونني بالمنارة، نصبًا تذكاريًا للأمل. مزحة قاسية، فالأمل شيء هش، يتحطم على صخور الواقع المتعرجة.

 

61

لقد شهدت عددًا لا يحصى من شروق الشمس، ودماء قرمزية عبر امتداد السماء المكدوم، وكل واحدة منها وعد ببداية جديدة، وهو وعد سرعان ما غرقته سيمفونية الأمواج التي لا هوادة فيها. السفن، مثل الفراش المخمور، ترفرف نحو الوهم الذي عرضته ذات مرة، فقط ليبتلعها حضن البحر الذي لا يرحم. وبقايا هياكلهم العظمية، التي ابيضت بفعل الشمس القاسية، تتناثر على الشاطئ ــ نصب تذكارية لحماقة الثقة في غير محلها.

62

ومع ذلك، يأتون. اليائسون الضالون، عيونهم واسعة مشتاقة للخلاص. أراهم في وجوه النوارس التي مزقتها العاصفة، وأسمعهم في صرخات الريح الحزينة. لقد ظنوا أن ضوء القمر الذي يتلألأ من زجاجي المحطم هو الوعد بميناء آمن، وفترة راحة من العاصفة القاسية.

 تابع


0 التعليقات: