الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 09، 2024

مكاشفات : (26) عبده حقي

502

التفاصيل، التي تم التفاوض عليها بدقة وبألوان خافتة، تلاشت في الخلفية. ما بقي هو الجوهر، النية التي لا تتزعزع مسجونة في أنظارهم. إنها شراكة لم يتم تشكيلها من خلال القوانين، ولكن من خلال الجوع المشترك والسعي الدؤوب لتحقيق هدف مشترك.

503

وبينما كانوا يبتعدون، كانت وجوههم تحمل تصميمًا جديدًا، ولمعت شرارة الطموح في أعينهم. الاتفاق، الذي تم ختمه بإيماءة بسيطة ومصافحة، تجاوز الجسدي. لقد كان عهدًا محفورًا في نسيج كيانهم، وهو التزام سيشكل مصائرهم في الأيام القادمة.

504

لقد نهضوا، وكانت حركاتهم مشبعة بهدف جديد. وكانت الطاولة التي كانت في يوم من الأيام أرضا للتفاوض، أصبحت الآن بمثابة شهادة صامتة على الاتفاق الذي تم التوصل إليه. عند الخروج إلى ليل المدينة، لم يعودوا كيانات منفصلة، بل قوة موحدة، كيانا واحدا مدفوعا باتفاق واحد لا يتزعزع.

505

داخل الكهوف المجوفة لمحطة القطار المهجورة، رقصت أصداء حقبة ماضية مع الظلال، لتنسج من الهمسات التي تتحدث عن رحلات تم القيام بها ومصائر لم تتحقق. كان الهواء مثقلاً بالذكريات، وكل خطوة تتردد في القاعات الصامتة مثل نبض قلب في الظلام.

506

وقفت وسط الأقواس المتداعية والمنصات المتهالكة، كشخص وحيد يغمره الضوء الشاحب لآلاف النجوم المنسية. المحطة، التي كانت ذات يوم كانت مركزًا صاخبًا للنشاط، أصبحت الآن في حالة سبات، وأسكتت روحها النابضة بالحياة بسبب مسيرة الزمن التي لا هوادة فيها.

507

ومع ذلك، تحت سطح حب التجوال تكمن حقيقة أعمق، وهو شعور بالشوق يتجاوز حدود الزمان والمكان. فقد همست أشباح المسافرين بأسرار في أذني، وحملت أصواتهم الريح مثل تهويدات قديمة تُغني لتهدئة النفس المضطربة.

508

داخل الكهوف المجوفة لمحطة القطار المهجورة، رقصت أصداء حقبة ماضية مع الظلال، لتنسج من الهمسات التي تتحدث عن رحلات تم القيام بها ومصائر لم تتحقق. كان الهواء مثقلاً بالذكريات، وكل خطوة تتردد في القاعات الصامتة مثل نبض قلب في الظلام.

509

وقفت وسط الأقواس المتداعية والمنصات المتهالكة، كشخص وحيد يغمره الضوء الشاحب لآلاف النجوم المنسية. المحطة، التي كانت ذات يوم مركزًا صاخبًا للنشاط، أصبحت الآن في حالة سبات، وأسكتت روحها النابضة بالحياة بسبب مسيرة الزمن التي لا هوادة فيها.

510

لكن حتى في ظل اضمحلالها، احتفظت المحطة بنوع معين من السحر، سيمفونية صامتة من الحنين إلى الماضي تجر أطراف وعيي. رأيت نفسي مسافرًا، ضائعًا في متاهة الإمكانيات، كل قطار يصفر بأغنية إنذار تدعوني إلى الأراضي البعيدة والشواطئ المنسية.

511

وهكذا أصغيت بأذنين متناغمتين إلى سيمفونية الكون، حيث تلاشت أصداء الخطى في الأثير، ولم تترك وراءها سوى رائحة الأحلام المؤجلة. في تلك اللحظة العابرة من الشركة، شعرت بنبض الكون ينبض تحت جلدي، وهو تذكير بأنه حتى في صمت الهجر، استمرت الحياة في الظهور بكل تعقيداتها الرائعة.

512

لقد تلاشى العالم في نفسٍ واحد مرتعش. ليس الهواء الذي يغادر رئتي، بل جوهر الغرفة المتمرد على وجوده. انطفأ اللهب، الذي كان لساناً متحدياً منذ لحظات، وأغرقني في مخمل خانق. لم يكن غياب الضوء هو ما سرق أنفاسي، بل الحضور المفاجئ والوحشي لما كان الضوء يحجبه.

513

كانت الجدران، التي كانت مطلية ذات يوم بلون مغرة مهدئة، تتلوى في السواد الغامق. كنت أكاد أشعر بها وهي تنثني، وتتحول أسطحها إلى قماش للأصابع غير المرئية لرسم الحروف الهيروغليفية الوحشية. تحولت ألواح الأرضية الموجودة أسفل قدمي، والتي كانت صلبة بشكل مطمئن، إلى مساحة حية، كل لوح منها عبارة عن ضلع هيكلي يجهد ضد بعض الضغط غير المرئي.

514

كان الهواء نفسه معلقًا ثقيلًا، مثقلًا برائحة الأرض الرطبة والعفنة. لقد ضغط على بشرتي، وهو مظهر جسدي للخوف الذي كان يلتف بقوة في أمعائي. كل الغريزة كانت تصرخ في وجهي لكي أهرب، لكن أطرافي كانت رصاصية، ترفض الانصياع. كنت ذبابة عالقة في شبكة عنكبوت غير مرئية، المفترس غير المرئي الذي يتذوق رعبي المتزايد.

515

ثم صوت. ليس شعورًا جسديًا، بل إحساسًا كشطًا وخدشًا في نسيج الواقع ذاته. لقد جاءت من كل مكان ومن لا مكان، جوقة من الهمسات التي أرسلت الرعشات أسفل عمودي الفقري. تحولت الهمسات، واتحدت، واتخذت شكلًا مرعبًا ومألوفًا بشكل غريب. لقد كانت المخاوف المنسية، والكوابيس التي دفنتها في أعماقي، وشقّت طريقي إلى النور، أو بالأحرى، غيابه.

516

لقد تبلورت محاكاة ساخرة غامضة وغريبة لكل شيء مألوف. أصبح الكرسي ذو الذراعين الموجود في الزاوية شخصًا منحنيًا، حشوه منتفخ بشكل فاحش، وعين واحدة خبيثة تتوهج في الظلام. تحولت ساعة الجد المعلقة على الحائط إلى حارس هيكلي، وبندولها منجل يدق ثواني وفاتي.

517

أغمضت عيني، راغبًا في إبعاد الأشباح، لكنها لم تعد خارجية. لقد كانوا بداخلي، ينزلقون في متاهة عقلي، ويتغذون على رعبي. الذكريات، التي كانت عزيزة ذات يوم، تحولت إلى محاكاة ساخرة بشعة. أصبح الضحك ثرثرة هيكلية، ولمسة العاشق عناقًا باردًا ورطبًا.

518

الوقت ذاب. هل كانت دقائق أم ساعات أم دهرًا جلست فيها هناك سجينًا في هذا الجحيم الخاص؟ الخط الفاصل بين الذات والمناطق المحيطة بها غير واضح. هل كنت أنا المخلوق المتذمر الجالس على الكرسي، أم المسخ الذي ينظر من الزاوية؟ أو ربما كنا جميعًا من نسج نفس الحلم المرعب؟

تابع


 

0 التعليقات: