519
ثم التحول. بدأت الهمسات تنحسر، وتضاءل الهواء قليلاً. بدأ ضوء
أثيري خافت يتسرب من أطراف رؤيتي، دافعًا الظلام. تذبذبت الأشكال الوحشية، وأصبحت
خطوطها البشعة غير واضحة.
520
مع اندفاع يائس أخير، نفى الضوء الظلال تمامًا. عادت الغرفة
إلى الظهور من جديد، وقد كانت محطمة ولكنها كاملة. كانت الجدران ساكنة، وألواح
الأرضية صلبة. كنت وحدي، والدليل الوحيد على محنتي هو العرق البارد الملتصق بجلدي
وضربات قلبي تحت أضلاعي.
521
لكن الصمت لم يعد مريحا. كانت تنبض بالطاقة الخفية، وهي تذكير
دائم بالظلام الكامن تحت السطح. العالم، الذي كان ذات يوم مكانًا للألفة المريحة،
أصبح الآن يحمل تهديدًا خفيًا، وسرًا يهمس في الظل. وأنا، التي تميزت إلى الأبد
بهبوطي إلى الهاوية، عرفت أن الرعب الحقيقي لم يكن الوحوش التي واجهتها، ولكن
الإدراك المخيف أنهم كانوا دائمًا جزءًا مني.
522
في الكتاب القديم، ظلت همسات الحكايات المنسية مثل أصداء في
هاوية كهفية، وكل صفحة هي شهادة على مرور الزمن، محفورة ببصمات الأصابع الدقيقة
لعناق التاريخ. تراقصت الكلمات على الرق البالي، وتحولت معانيها مثل الظلال في
الضوء الخافت للهب المحتضر.
523
داخل أروقة العقل المتاهة، انطلقت في رحلة عبر متاهة الذاكرة،
متتبعة معالم الأسرار القديمة المخبأة في ثنايا أحضان الزمن. كان كل لفة في الصفحة
بمثابة خطوة أعمق في لغز الوجود، وهبوطًا إلى أعماق اللاوعي حيث تتشابك الأحلام
والواقع مثل العشاق في عناق أبدي.
524
بدت الكلمات نفسها وكأنها تتنفس، وتنبض بقوة حياة خاصة بها،
كما لو أن جوهر الخليقة يتدفق عبر عروقها. تحدثوا عن عوالم منسية منذ زمن طويل، عن
أبطال وأشرار عالقين في صراع أبدي من أجل التفوق، وقصصهم منسوجة في نسيج الكون مثل
خيوط في نسيج كوني.
525
لقد ضاعت في متاهة اللغة، وغرقت في بحر من المقاطع التي تنحسر
وتتدفق مثل مد وجزر محيط غير مرئي. بدا أن الوقت نفسه يفقد معناه، حيث أسلمت نفسي
لدورة الولادة والاضمحلال التي لا نهاية لها والتي تغلغلت في صفحات الكتاب القديم.
526
ومع ذلك، وسط فوضى الوجود، كان هناك شعور غريب بالصفاء، وسلام
تجاوز حدود الإدراك. ففي الصمت بين الكلمات، وجدت همسًا من الأبدية، ولمحة من
الامتداد اللامتناهي الذي يكمن وراء حدود الفهم الفاني.
527
وفي النهاية، أغلقت الكتاب، وما زالت صفحاته تتردد بأصداء آلاف
القصص التي لم تروى. وعندما عدت إلى العالم الخارجي، حملت معي جزءًا من اللغز،
شرارة إلهية ستضيء ظلام روحي إلى الأبد.
528
في الضباب، شقت طريقي، مسترشدًا بالحدس. غلف ضباب كثيف العالم،
وحوّل الواقع إلى حلم ضبابي. كل خطوة كانت بمثابة عمل إيماني، وكل نفس كان بمثابة
صلاة صامتة للكون.
529
كان الضباب لوحة بيضاء، مساحة يمتزج فيها الواقع بالخيال.
تلاشت الأشكال المألوفة في الظلام، مفسحةً المجال لظلال غريبة ومتغيرة. كانت
الأصوات مكتومة، كما لو كان العالم يحبس أنفاسه.
530
تقدمت للأمام، مسترشدة بقوة داخلية، حدس بدا وكأنه يعرف الطريق
حتى عندما لم تتمكن عيناي من رؤيته. كان الأمر كما لو أن جزءًا مني قد سار بالفعل
في هذا الطريق، كما لو أن كل خطوة لها صدى مع ذاكرة الأجداد.
531
كان الضباب متاهة، متاهة من الاحتمالات التي لا نهاية لها. كل
منعطف قد يؤدي إلى طريق مسدود أو طريق جديد، كل خطوة قد تكون خطوة نحو المجهول أو
خطوة نحو الوطن. لكنني لم أكن خائفا. لقد استرشدت بثقة عمياء، وإيمان لا يتزعزع
بنفسي.
532
ومع تقدمي، بدأ الضباب ينقشع، ليكشف تدريجيًا عن المناظر
الطبيعية من حولي. أصبحت الأشكال أكثر وضوحا، وعادت الألوان، وعاد العالم إلى
الحياة من جديد. ومع ذلك، فقد تغير شيء ما. العالم الذي رأيته لم يكن هو نفسه الذي
تركته خلفي. لقد كانت أكبر وأكثر تعقيدًا وأجمل.
533
لقد مررت عبر الضباب وخرجت من الجانب الآخر، متحولًا. لقد وجدت
طريقي، ليس رغم الضباب، بل بفضله. لأننا في الظلام نجد نورنا، وفي عدم اليقين نجد
طريقنا.
534
والآن أقف هنا، على حافة العالم المعروف، مستعدًا لاتخاذ
الخطوة الأولى نحو المجهول. لا أعرف ما الذي ينتظرني، لكني أعلم أنني مستعد. لأني
قد عبرت الضباب ووجدت طريقي.
535
زفرة مرتجفة، هسهسة هوائية تفلت من ذاكرة مثقوبة. أطلقت
المفصلة، وهي رثاء صدئ، صرير وداعها الأخير. الغرفة، ضريح الأصداء، كانت تنفث
أنفاسًا قديمة من الغبار والندم. لم تعد لوحة قماشية، بل انهارت إلى الداخل، وهي
رسم تخطيطي بالفحم لما كان في السابق.
536
كان الهواء، الممتلئ بحلاوة الوعود المنسية، ملتصقًا مثل خيوط
العنكبوت. في كل خطوة، تمزيق متردد عبر نسيج الزمن، تاركًا خيوط الحنين متشبثة
بالمشاعر المتوترة. العتبة، ندبة خشنة، تشير إلى الهاوية بين ما كان وسراب
المستقبل المتلألئ والمتغير باستمرار.
537
ارتعش طرف وهمي، وهمس صوت وهمي في الريح. لكن الريح، المخادعة
المتقلبة، لم تقدم أي عزاء، فقط الصدى الأجوف لاسم محفور على شاهد قبر متهدم.
القلب، بندول الإيقاع الذي تم ضبطه على إيقاع متنافر، دق وشمًا محمومًا على قفص
الأضلاع.
538
لكن القفص، الذي كان في السابق سجنا، أصبح الآن مفتوحا جزئيا.
المفتاح، تنهيدة مشوهة، فك أغلال الماضي. انزلق الوزن، وهو عباءة رصاصية، وكشف عن
إطار هيكلي، مجرد من ملابسه ولكنه حازم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق