الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 18، 2024

مكاشفات (32) عبده حقي

619

تقع القرية تحت شجرة البلوط القديمة مثل طفل يحتضن بين ذراعي عملاق. لحاءها، وهو نسيج من الفصول الماضية، يحمل نقوش ضربات البرق المنسية وهمسات ألف فجر. غطى الطحلب، عباءة خضراء، أطرافه القديمة، وكل تموج منها شهادة على سيمفونية المطر والشمس التي لا هوادة فيها.

620

من موقعها المرتفع، استطلعت شجرة البلوط العالم بالأسفل. شخصيات صغيرة، مثل النمل المسرع، تندفع على طول المسارات المتربة، وضحكاتها لحن عالي الطبقة تحمله الريح. الدخان، خصلة من الأحلام الرمادية، تتلوى من المداخن، وترسم سماء الشفق بجمال حزين.

621

تذكرت شجرة البلوط عندما كانت القرية مجرد بريق في عين رائد. لقد شهدت أول كابينة خشبية ترتفع، وكانت أخشابها التي تصدر صريرًا بمثابة شهادة على طموح الشباب. لقد شاهدت الأطفال وهم يكبرون ليصبحوا عشاقًا، وكانت قبلاتهم المسروقة مخبأة تحت مظلتها المترامية الأطراف. لقد حزنت على وفاة كبار السن، وكانت وجوههم محفورة بتاريخ القرية، حيث تم دفنهم تحت ظلها البارد.

622

خلال فصول الصيف الحارقة والشتاء القاسي، وقفت شجرة البلوط حارسة. أوراقها، مليون لسان زمرد، تهمس للريح بأسرارها. جذورها، مثل أصابع معقودة، تغوص عميقًا في الأرض، وتستمد القوة من شريان الحياة في العالم. وفي أوقات الشدة، كان القرويون يبحثون عن العزاء تحت أغصانها. وجودها، وعد صامت، وطمأنينة ثابتة بأن الحياة ستستمر حتى في مواجهة الشدائد.

623

ومع غرق آخر شظية من الشمس تحت الأفق، لتلوين السماء بألوان نارية، حفيف أوراق البلوط - في تهويدة للقرية النائمة. تنهدت الريح من خلال أغصانها، حاملة معها ثقل القصص التي لا تعد ولا تحصى، وحارسًا صامتًا يهمس بحكايات الماضي وأحلام المستقبل. هنا، تحت النظرة الساهرة لشجرة البلوط القديمة، كانت القرية تنام، آمنة وسليمة، محتضنة في أحضان الإرث الخالد.

624

ضباب طيفي ملتصق بأرضية الغابة، كفن منسوج من الهمسات المنسية وأسرار الزمن. كان ضوء الشمس، وهو صراع من أجل الهيمنة، يتسلل عبر المظلة في الأعمدة الأثيرية، ليضيء الفروع العقدية المغطاة بالطحالب للأشجار القديمة. كان الطريق تحت أقدامهم، بالكاد اقتراحًا أكثر من مجرد ذكرى خطى، يتعرج عبر الشجيرات مثل ندبة شاحبة.

625

لقد تحركا، وهما زوجان مجهولان مرتبطان بهدف غير معلن، بصمت خارق للطبيعة. كانت أنفاسهم، وزفيرهم الضعيف الذي اختفى في الضباب الملتف، هي الأصوات الوحيدة التي تجرأت على اختراق الصمت القمعي. كل حفيف أوراق الشجر، وكل طقطق غصين، كان يرسل رجفة في أعمدتهم الفقرية، ليس من الخوف، بل من الوعي البدائي، وإحساس متزايد بأنهم مراقبون من قبل عيون غير مرئية.

626

بدت الأشجار نفسها، وهي حراس معقودون من عصر منسي، وكأنها تتكئ، وأغصانها تخدش الضباب مثل الأصابع الهيكلية. لحاءهم، المحفور بالهيروغليفية للمواسم الماضية، همس بقصص منسية بلغة لا تجرؤ الريح على فهمها. حتى الهواء، الممتلئ برائحة الأرض الرطبة والأوراق المتحللة، كان يحمل ثقلًا ملموسًا، ثقل الأسرار المدفونة عميقًا تحت أرضية الغابة.

627

وبينما كانوا يغامرون بالتعمق أكثر، بدا الضباب وكأنه يتكثف، ويدور حولهم في حضن مشدود باستمرار. بمجرد أن يكون المسار واضحًا، يتحول إلى متاهة أثيرية، كل دورة تقودهم إلى قلب الغابة القديمة. وهنا تلاشت الحدود بين الواقع والوهم. العيون الغارقة، التي لمحت من خلال الضباب، قد تكون جذورًا معقودة أو أرواحًا ساهرة. همسات تحملها الريح قد تكون حفيف أوراق الشجر أو توسلات النفوس المنسية.

628

لقد واصلوا الضغط، مدفوعين بقوة غير مرئية، للتعمق أكثر في قلب اللغز. الغابة، كائن حي، تتنفس من حولهم، أسرارها مغرية ومرعبة في نفس الوقت. لم يعودوا مجرد مسافرين، بل مشاركين في رقصة خالدة، رقصة بين المرئي وغير المرئي، بين الحاضر والمنسي.

629

انتزعتها هزة من الحلم، وخرجت شهقة مخنوقة من حلقها. عاد الواقع إليها كموجة عارمة، وحلت محل ألفة الحلم المريحة صرامة محيطها. الغرفة، التي كانت ذات يوم مشهدًا نابضًا بالحياة، تحولت إلى حدود معقمة لجناح المستشفى. تحول التوهج الناعم المنبعث من داخل الحلم إلى وهج شديد لأضواء الفلورسنت.

630

ظل دفء الحلم عالقًا بها مثل طرف شبحي، وهو تذكير قاس بما فقدته. العالم الذي سكنته منذ لحظات، عالم مليء بالجمال المستحيل والاحتمالات التي لا حدود لها، بدا الآن وكأنه سراب قاسٍ يتلألأ في صحراء حياتها اليقظة.

631

خيبة الأمل، حبة مريرة، استقرت في حلقها. تجمعت الدموع في عينيها، مما أدى إلى طمس حواف الغرفة غير المألوفة بالفعل. كان الصوت الإيقاعي لشاشة قريبة، وهو تناغم مستمر مع سيمفونية حلمها، يسخر منها بواقعها الرتيب.

632

ولكن وسط حطام مشهد أحلامها المحطم، ومضت شرارة. ظلت المشاعر الخام والحشوية باقية - الفرح، والخوف، والشعور بإمكانية لا حدود لها. لقد كانت شهادة على قوة خيالها، ومصدرًا للإبداع لم تتمكن حتى جدران هذه الغرفة المعقمة من حصره.

633

وبنفس مرتجف، أغمضت عينيها، مستعدة للعودة إلى الحلم، ولو للحظة واحدة فقط. ربما، في النسيج الحيوي لعقلها الباطن، يمكنها أن تجد القوة والمرونة لمواجهة الحقائق القاسية في عالم اليقظة.

634

ربما يكون الحلم قد انتهى، لكن المشاعر التي أثارها، والدروس التي همس بها، بقيت جمرات في الرماد، في انتظار أن تشتعل مرة أخرى في لهب.

635

لن تدع الحلم يختفي تمامًا. سيصبح جزءًا منها، عالمًا سريًا مختبئًا في ثنايا عقلها، تذكيرًا بأنه حتى في مواجهة الواقع القاسي، لا يزال بإمكان قوة الخيال أن توفر طريقًا للهروب، إلى الجمال، والأمل.

636

في الشفق الصامت لدرج منسي، كانت ترقد - مدلاة مشوهة، ذهبها النابض بالحياة ذات يوم باهت إلى لون الندم الهامس. إنها تقع بين الحلي المنسية، والشريط الباهت هو رفيقها الوحيد. لم تبشر أي ضجة بوجودها، فقط الصمت الثقيل لعصر مضى.

637

لم يكن هذا مجرد معدن. لقد كان ضريحًا للذكريات، وقفصًا مذهّبًا للأسرار الهامسة. وفي قلبها، ضعفت صورة مصغرة، وابيضت ألوانها النابضة بالحياة بسبب القسوة

638

تحت وهج القمر المضيء، وقفوا كصور ظلية على خلفية سماء الليل، وأرواحهم عارية في أحضان ضوءها الأثيري اللطيف. بقلوب متشابكة وأرواح مشتعلة، تبادلا الوعود، وتهمست العهود في سكون الليل، وربطتهما معًا في رابطة غير قابلة للكسر.

تابع


0 التعليقات: