الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 24، 2024

خريطة الذات المجهولة: عبده حقي


في المعابر المتعرجة في عقولنا، حيث ترقص الظلال مع الذكريات المنسية وأصداء الأحلام غير المعلنة، يكمن عالم لن نفهمه بالكامل أبدًا. نحن مسافرون في عقولنا، نبحر دائمًا عبر خريطة أرواحنا المجهولة. نقف على حافة الفهم، وننظر إلى هاوية ذواتنا الداخلية، فقط لنكتشف الهوة تتسع مع كل خطوة إلى الأمام.

في كهوف الوعي، حيث تتلوى الأفكار كالأفاعي وترفرف المشاعر كالفراشات ، نسعى إلى كشف نسيج وجودنا. ومع ذلك، كلما سعينا جاهدين لفهم أنفسنا، أدركنا أننا مجرد أجزاء من كيان أعظم، بعيد المنال ومتغير باستمرار. نحن مهندسو ألغازنا الخاصة، وحراس الأسرار التي لا نستطيع حتى نحن فك رموزها.

في هذا السعي إلى معرفة الذات، نواجه أشباح ماضينا وأشباح مستقبلنا. كل ذكرى هي همسة شبحية، تذكير مؤلم بلحظات شكلتنا، وكل حلم هو سراب متلألئ، لمحة عما يمكن أن يكون. ننخل بين هذه الأصداء والأوهام، ونجمع أجزاء فسيفساء هويتنا، فقط لنكتشف أن الصورة تظل غير مكتملة، وتتغير وتتحول إلى الأبد.

ولكن في رقصة الاكتشاف هذه لا نجد اليأس بل الإمكانية. ففي عجزنا عن فهم أنفسنا بالكامل تكمن الإمكانية للنمو والإبداع بلا حدود. فنحن لسنا مقيدين بحدود فهمنا بل نتحرر من خلال اتساع إمكاناتنا. وكل خطوة نحو المجهول هي خطوة نحو أن نصبح شيئًا أكبر مما كنا عليه من قبل.

في شفق الوعي الذاتي، حيث يختلط المعروف بالمجهول، نكتشف كيمياء الوجود. فنحول شكوكنا إلى أحلام، ومخاوفنا إلى قوة. ونحتضن فوضى عوالمنا الداخلية ونستغلها لخلق الجمال والمعنى. فنحن فنانون نرسم بألوان أرواحنا، وموسيقيون نؤلف سيمفونيات قلوبنا.

لن نتمكن أبدًا من فهم أنفسنا بشكل كامل، ولكننا نستطيع أن نتجاوز الحاجة إلى الفهم الكامل. يمكننا أن نحتضن الغموض والسحر الكامنين في كياننا، ونعرف أننا أكثر من مجرد مجموع أجزائنا. نحن لسنا مقيدين بحدود فهمنا، بل إننا مدفوعون بالاحتمالات اللامحدودة التي تكمن وراء هذا الفهم.

في حديقة عقولنا، حيث تُزرع بذور الفضول والدهشة، نزرع أزهار الإبداع والابتكار. نحن الحالمون والفاعلون، الباحثون والمصممون. نغامر في عوالم الخيال، حيث تتلاشى حدود الواقع، ونخرج برؤى تتجاوز المألوف.

عندما نسافر عبر عالم ذواتنا الداخلية، نواجه الإلهي والشيطاني، والمقدس والدنيوي. نحن الملائكة والشياطين في أساطيرنا الخاصة، الأبطال والأشرار في قصصنا الخاصة. نتنقل عبر هذه الثنائية برشاقة وشجاعة، مدركين أن التفاعل بين الضوء والظل هو الذي يعطي العمق والأبعاد لوجودنا.

قد لا نتمكن أبدًا من فهم أنفسنا بشكل كامل، لكننا قادرون على احتضان التعقيد والتناقض في طبيعتنا. نحن كائنات متعددة الأوجه، وقادرة على الحب العظيم والخسارة العظيمة، والحكمة العميقة والحماقة العميقة. نحن مجموع تجاربنا، وتتويج اختياراتنا، وتجسيد أحلامنا.

في سيمفونية الحياة، نحن الموسيقيون والمستمعون والملحنون والنقاد. نحن نصنع ألحان وجودنا، وننسج معًا نغمات الفرح والحزن والانتصار والهزيمة. نحن نستمع إلى التناغمات والتنافر، ونجد المعنى في التفاعل بين الصوت والصمت.

 

لن نتمكن أبدًا من فهم أنفسنا بشكل كامل، ولكننا نستطيع الاحتفال برحلة اكتشاف الذات. يمكننا تكريم لحظات الوضوح ولحظات الارتباك، وقمم التنوير ووديان عدم اليقين. يمكننا احتضان مفارقة وجودنا،

مع العلم أن هذه المفارقة هي التي تجعلنا بشرًا.

في النهاية، ليست الوجهة هي التي تحدد هويتنا، بل الرحلة نفسها. إن السعي إلى الفهم، والسعي وراء المعرفة، واستكشاف عوالمنا الداخلية هي التي تشكل هويتنا. نحن مسافرون في الفضاء الشاسع لأرواحنا، نسعى إلى الأمام دائمًا، ونتطور إلى الأبد.

لن نتمكن أبدًا من فهم أنفسنا بشكل كامل، ولكن في هذه الرحلة التي لا تنتهي يكمن جمال وعجائب وجودنا. نحن أكثر مما يمكننا تخيله، وفي سعينا لاكتشاف الذات، لا نجد إجابات فحسب، بل ونكتشف أيضًا الإمكانات اللانهائية لوجودنا.


0 التعليقات: