الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أغسطس 01، 2024

شظايا الليل : عبده حقي


 ينحني الكون حول عماده، يهمس بأسرار للحالمين المتجولين. يتدلى هلال، مضيء ورقيق، عين شاحبة في ليل المحيط، تتأمل رقصة الكائنات المجردة. ليست من لحم وعظم، بل من لون وشكل، نبتت من تربة الخيال وسقيت من أنهار اللاوعي.

يقف المثلث أسود مثل حجر السج، حازمًا - حارسًا في تأملات هذه الليلة. يتوازن على رأسه، متحديًا الجاذبية، ساعة رملية زمنية بلا رمال تشير إلى سيلان الوقت. في المقابل، يلعب رفيق، ملون باللون الأحمر ومستدير مثل الشمس، دور النظير - حوار بين الأرض والسماء، بين الحقيقي وغير الحقيقي. يتحدثون بدون كلمات، ويتحدثون لغة الخطوط والألوان، باليه صامت من الشكل.

في هذا الفضاء السماوي، تنبثق نجمة وحيدة، ليس باللون الأبيض الناري بل باللون الأزرق الكهربائي ــ قطرة من السماء، جزء من حلم. إنها تشير إلى الطريق ، والأرواح التي تتجول في هذا المشهد السريالي. إنها ترشدهم عبر متاهة الأفكار، حيث يكشف كل منعطف عن جزء آخر من الذاكرة المنسية، وصدى آخر لحلم حلم به ذات يوم وفقد.

هنا، تطفو عين ــ لا ترمش، ترى كل شيء ــ منفصلة، ​​غير مرتبطة بأي وجه أرضي. تراقب بفضول هادئ ومنفصل، وكأنها تسجل الرقصة الغريبة أدناه. بالقرب منها، يغني طائر بمنقار مجزأ، وريشه من النيلي العميق والبرتقالي الناري، دون صوت. صوته هو همهمة صامتة للكون، ترنيمة للجمال الأثيري للمجهول. "تقف على غصن غير مرئي، وتحدق في سماء منتصف الليل، وكأنها تتوق إلى الطيران خارج عالم الألوان والخطوط، إلى الفراغ اللامتناهي.

هناك تمتد شبكة عنكبوتية من الخطوط السوداء الرفيعة، شبكة دقيقة تلتقط اللحظات العابرة لهذا العرض الليلي. وتحاصر بين خيوطها الحريرية تنهدات العشاق المنسيين، وهمسات الرياح القديمة، وضحكات الأطفال الذين لم يولدوا بعد. كل تقاطع هو نقطة التقاء، ومكان لقاء الأحلام المتوازية، حيث ينحني الوقت ويتلاشى الواقع. ترتجف الشبكة، ليس من الريح، ولكن من أنفاس اللوحة الهادئة، التي تنبض بنبض الاحتمالات اللانهائية.

في هذه السيمفونية الصامتة، تتجمع الكينونة وتذوب، كل منها نغمة في لحن لا ينتهي. يرقص شبه منحرف برتقالي، مائل ومنحرف، مع دوامة سوداء، وثنائيهما موسيقى بصرية لا يمكن إلا للروح أن تسمعها. إنها تدور وتتلوى، فتثني نسيج الفضاء ذاته، فتخلق تموجات في الهواء مثل حصاة سقطت في بركة. إنها شظايا من ساعة مكسورة، قطع من لغز ضاعت صورته مع الزمن. ومع ذلك، ففي رقصها إيقاع، نبضة - نبضة قلب تربط بين الوعي واللاوعي، وبين عالم اليقظة وعالم الأحلام.

في وسط هذا الغلاكسي السماوي، يرتفع قمر أزرق - انعكاس للهلال الأبيض أعلاه. إنه التوأم للعين الأولى في الليل، صورة طبق الأصل تحمل في داخلها كل الأحلام التي لم تحلم بها قط، وكل العوالم التي لم تولد قط. إنه رمز، وختم للمجهول، وتذكير بأن داخل اتساع الكون، هناك أشياء غير مرئية أكثر من المرئية، وأسرار لم تُحل أكثر من تلك التي تم حلها.

منحنى أسود برشاقة، ينحني مثل ظهر القطة، على استعداد للانقضاض. إنه علامة استفهام، لغز، لغز ملفوف بالظلال. إنه لا يسأل بالكلمات ولكن بالحضور، ويتحدى المشاهد لفك شفرته، والبحث عن حقيقته المخفية. بجانبه، سلسلة من النقاط الحمراء - شفرة مورس من نجم بعيد - تهجئ رسالة لا يستطيع قراءتها إلا القلب. إنها رسالة حب إلى اللانهائي، وقصيدة إلى المجهول، وإعلان بأن الجمال موجود حتى في المجرد، والحياة موجودة.

مع تنفس المنديل تتعمق الألوان، وتتغير الأشكال. تبدأ الأشكال في التشويش، وتندمج مع بعضها البعض، وكأنها نفسها تنام. تخف الأشكال السوداء، وتتلاشى البقع الحمراء، ويخفت ضوء النجم الأزرق. تغلق العين، ويتلاشى صوت غناء الطائر في الصمت. يصمت النسيج، ويحتفظ بأسراره. القمر، الأبيض والأزرق، حارسان توأمان للليل، يراقبان بصمت.

وفي اللحظات الأخيرة، مع هبوطها إلى الهدوء، يطفو شكل برتقالي صغير - ربما فاصلة - على حافة الإطار. إنها وقفة، نفس، لحظة سكون. إنها وعد بالمزيد في المستقبل، بقصص لم تُروَ بعد، بأحلام لم تُحلم بعد. إنها معلقة هناك، نغمة واحدة في نهاية سيمفونية سريالية، تذكير بأن الرحلة في عالم التجريد لا تنتهي أبدًا.

تتلاشى إلى اللون الأسود، لكن الحلم يظل باقيًا، صدى في الروح، همسة في العقل. وبينما يتراجع المشاهد، ويترك عالمها ، يحمل معه قطعة من السريالية، وشظية من اللانهائي، وشظية من المجهول. تستمر الرحلة، في النوم واليقظة، في الأحلام والواقع، ترقص إلى الأبد على حافة التجريد والواقع.

0 التعليقات: