الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 04، 2024

"أصداء الطرقة الثالثة" نص مفتوح :عبده حقي


في هدوء الليل، عندما تبئر عين القمر الشاحبة نظرها على العالم، يصبح كل شيء محبوبا بمثابة قلب الجنة - كل شيء ينبض بنبض الوجود الصامت. تحبس الغرف، تلك الملاذات الروحية، أنفاسها. يحتضن الكرسي المخملي، العرش الفاخر، ثقل الأيدي . والمرآة، تلك الجاسوسة البائسة، لا تعكس ما هو موجود، بل ما لم يكن قط.

صرير الباب - همسة من خشب قديم، أو تنهيدة حلم منسي؟ خطوة إلى الأمام تبدو وكأنها هبوط في بئر، حيث يتردد صدى الزمن إلى أسفل في العدم. هنا، لا تشكل الجدران مجرد حواجز ولكنها كائنات واعية، حريصة على ابتلاع الغافلين. تنبض في عروقها ، أنهار من الكلمات غير المنطوقة تتدفق عبر شرايينها، ترسم خريطة متاهة لا يمكن لأي بشر الهروب منها.

في الزاوية، تدق الساعة، ليس بالطريقة المعتادة، ولكن بصوت يحفر في العقل مثل مجرفة لا هوادة فيها . كل دقّة هي إزميل على حجر العقل، ينحت الصلب حتى لا يبقى سوى البخار. لا تمر الساعات - إنها تتباطأ، وتمتد مثل شبكة العنكبوت، التي تأسر القلب بخيوط غير مرئية.

كوب من الشاي جالس على الطاولة، يتصاعد البخار منه في رقصة أنيقة للغاية بحيث لا يمكن للعين البشرية أن تراها. يطن الخزف ، لحن خافت، يشبه الترنيمة تقريبًا، يسحب حواف الواقع، ويهدد بتفكيكه مثل نسيج رث. السائل الموجود بالداخل داكن، أسود تقريبًا، لكنه يشير إلى عمق يتجاوز مجرد سائل، هاوية إذا شربها، ستسحب الشارب إلى عالم من الاكتشافات التي لا توصف.

ترفض لوحة معلقة على الحائط أن تظل ساكنة. فالمنظر الطبيعي داخلها يتغير ـ الأشجار تتلوى إلى أشكال نصف مرئية ونصف محسوسة، وتمتد أغصانها إلى الخارج، وتخدش نسيج الغرفة وكأنها تحاول الهرب. وربما تفعل ذلك بالفعل، ففي لحظة ما تتحول إلى غابة، وفي اللحظة التالية تتحول إلى محيط، ثم لا شيء سوى فراغ، أشد سوادًا من أعمق ليلة.

الكرسي بجوار النار يدعوك بدفئه، ولكن هناك شيء ما في الطريقة التي تتوهج بها النيران، ليس بإيقاع الرياح أو الخشب، ولكن بنبض قلب وحش من عالم آخر. النار حية، وكل جمرة هي عين مشتعلة، تراقب وتحكم وتعرف الكثير. اجلس، كما يبدو، وفقد نفسك في اللهب، واتحد مع الحرارة حتى لا تصبح سوى دخان يطفو نحو السقف.

على المكتب، كتاب مفتوح ، تصدر صفحاته صوت حفيف رغم سكون الهواء. تزحف الكلمات عبر الورقة، وتتشكل وتعيد تشكيل نفسها في جمل تتحدى الفهم. إنها شفرة، لغة الأحلام، حيث يتحول المعنى مثل الرمال المتحركة، ويسحب العقل إلى عمق أكبر مع كل نظرة. اقرأ، كما تحثك، وسترى ما لا ينبغي أن تراه أبدًا، وتعرف ما لا ينبغي أن تعرفه أبدًا.

ترتجف الأرض تحتها، وكأن الأرض نفسها تستيقظ من نوم عميق. يتردد صدى خطوات الأقدام حيث لا يمشي أحد، ويتردد صدى صوت نعال الأحذية على الحجارة في النخاع، صوت أجوف بارد يملأ الأذنين ويغرق الفكر. لكن لا يوجد أحد هناك، فقط بصمة شخص ما، شيء ما، كان ذات يوم، أو ربما سيكون.

تهب نسمة هواء تحمل معها رائحة مكان بعيد لم يزره أحد قط ولكنه مألوف للغاية. إنها رائحة الكتب القديمة، ورائحة المطر على الأرض الجافة، ورائحة ذكرى معلقة بعيدًا عن متناول اليد. ترفرف الستائر ، رغم أن النوافذ مغلقة، وهي حركة لطيفة أقرب إلى المداعبة منها إلى التيارات الهوائية، وكأن الهواء حي، وواع، وفضولي بشأن سكان هذا العالم الصغير الغريب.

إن السرير في الغرفة المجاورة مُجهز، ولكن ملاءاته مشدودة وكأن هناك شيئًا غير مرئي يكمن تحتها، ثقل يضغط عليها، فيشوه القماش. إن رفع الغطاء لن يكشف عن جسد، بل عن سر ثقيل للغاية لا يمكن تحمله، سر من شأنه أن يغير جوهر الغرفة ومن فيها. ومع ذلك، يظل السرير، دعوة وتحذيرًا، يعد بالراحة، ولكن فقط إذا كان المرء على استعداد لدفع الثمن.

في الخارج، تنام الحديقة تحت غطاء من الصقيع، وكل ورقة منها تشبه نجمة تجمدت في الزمن. تتمايل الأشجار بهدوء، رغم عدم تحركها بفعل الرياح، وفي البعيد يمكن سماع لحن خافت ـ تهويدة للأرض، أو رثاء للسماء؟ الليل نفسه يحبس أنفاسه، وكأنه ينتظر شيئًا ـ وصولًا، أو ربما نهاية.

ثم يأتي صوت طرقة خفيفة، مترددة، وكأن اليد التي تدق الباب غير متأكدة من وجودها. ينتقل الصوت عبر الغرفة، ويلمس كل شيء، كل شيء محبوب، بإجلال يقترب من الخوف. يرتجف الباب استجابة لذلك، لكنه لا يُفتح. ليس بعد. يأتي الطرق مرة أخرى، بصوت أعلى قليلاً، وأكثر إلحاحًا، لكن الباب يظل مغلقًا رغم ذلك.

يخيم الصمت، كثيفًا ومضطهدًا ، مثل كفن يغطي الغرفة. تبدو الأشياء وكأنها تتجمع معًا، ويشعر المرء بوجودها أكثر مما يراه، وكأنها تنتظر وتستمع أيضًا. يصبح الهواء ثقيلًا، حاملًا بتوتر يتشقق تحت السطح مباشرة، مثل أول إشارة لعاصفة لم تنكسر بعد.

يأتي القرع للمرة الثالثة، وهذه المرة يتردد صدى صوته، صوت عميق مدوٍ يهز أسس المنزل. يرتجف الباب ، ويصدر الخشب أنينًا تحت وطأة القوة غير المرئية على الجانب الآخر. ثم، مع نفس أخير مرتجف، ينفتح الباب، فلا يكشف عن شيء سوى ظلام دامس يبدو أنه يمتد إلى ما لا نهاية.

ولكن هذا الظلام ليس فارغًا. إنه كثيف، ملموس تقريبًا، كيان حي يمتد، ويلف خيوطه حول الغرفة، حول الأشياء المحبوبة التي كانت ذات يوم قلب الجنة. ومع انتشار الظلام، فإنه يستهلك كل شيء في طريقه، ويبتلع الغرفة، والمنزل، والعالم، حتى لا يتبقى شيء سوى الفراغ العميق الذي يتردد صداه.

في هذا الفراغ، لا يوجد ضوء، ولا صوت، ولا وقت. فقط ذكرى ما كان ذات يوم، ذكرى الأشياء المحبوبة التي كانت مركز الجنة. وربما، في زاوية بعيدة من العقل، هناك همسة خافتة، صدى متبقي لتلك الضربة الثالثة والأخيرة - تذكير بأنه حتى في قلب الجنة، هناك دائمًا شيء ينتظر، شيء كامن في الظل، جاهز لاستهلاك كل ما هو عزيز علينا.

تدق الساعة ، ولكن هذه المرة، ليس صوتًا. بل حضور، قوة ثابتة لا هوادة فيها تدفع العقل، والروح، وتدفعها إلى أعماق الفراغ. تمتد الساعات، كل منها أطول من سابقتها، حتى يصبح الوقت نفسه بلا معنى، مفهومًا ضائعًا في الظلام الدامس.

وفي هذا الظلام، يسود شعور بالسلام. ليس سلام الراحة، بل سلام النسيان، والنسيان، والنسيان. لقد اختفت الأشياء المحبوبة، ومركز الجنة، واستهلكها الفراغ، وتقلص وجودها إلى مجرد ذكرى بعيدة، صدى خافت يتلاشى مع مرور كل ثانية.

الباب مفتوح ، بوابة إلى لا مكان، إلى لا شيء. يستمر الظلام في الانتشار، يلتهم كل شيء في طريقه، حتى لا يتبقى شيء سوى الفراغ، الفراغ الذي لا نهاية له.

كل شيء محبوب هو مركز الجنة، لكن الجنة نفسها ليست أكثر من وهم عابر، راحة مؤقتة من الظلام الذي ينتظر أن يبتلعنا جميعًا. وعندما يأتي هذا الظلام، عندما يسيطر علينا أخيرًا، لا يبقى شيء سوى الفراغ، الفراغ اللامتناهي، حيث يتوقف الزمن وينسى كل ما كان محبوبًا ذات يوم، ويضيع في الظلام الذي يكمن في قلب كل الأشياء.

0 التعليقات: