الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، سبتمبر 27، 2024

" أنا الذي " نص مفتوح : عبده حقي

 


أنا التموج في أعماق المحيط الهادئ،  أرقص مع تلويحات الريح، ألمس وأجذب وأبتعد دائمًا، وأنآى بنفسي إلى حواف بعيدة عن نفسي.

وحدي، أردد صداي . حتى في الحشود، حتى عندما تكون الأضواء دافئة، أشعر بجليد المسافة.

أنا الصوت الذي لا يترك خلفه صدى، والعاصفة التي ترتفع وتستطيع البقاء في القمم.

يقولون إنني سليم ومعافى، لكنهم يتجاهلون ندوبهم القديمة المقصودة في جسدي. ولم يحملوا قط ثقل سماء شاسعة لا يمكن احتواؤها، وحزنًا عميقًا لا يمكن الإفصاح عنه.  

أرتفع - إلى الغرف الفارغة في روحي. أبحث عن وجوه في النوافذ، لكني لا أجد سوى ظلال ترسم الحدود العريضة لأملي.

منذ ولادتي وأنا أحمل جوع النجوم، وفي ذلك الجوع، أحترق -لماذا، لا أعرف. أتذوق البرتقال عندما أتنفس في الليل، حلاوته تتلاشى في كلمات مرة لا أستطيع أن أقولها.  في أزقة قلبي، هناك مدن مدفونة، مدن من الحجر والماء حيث لا أحد يعيش هناك .

القمر يضحك عند قدمي، شاحبًا كجزر الملح، لكني لا أستطيع رؤيته؛ عيناي مليئتان بالرمال. أسير بين ظلال أشجار السرو، أصابعي تمسك بالهواء، تحاول سجن الصمت الذي ينزلق بين أفكاري، مثل ساعة مكسورة تسقط من السحاب.

مرة أرتدي قناع الريح، رغم أنني لست سوى غبار. ومع ذلك، فأنا أغني، مثل طائر منقاره معطوب، وصوته رقيق، ويمتد عبر حقول الصمت.

أنا البرتقالة التي تسقط، وتتدحرج، وتختفي تحت تراب الوطن ، ولا يمكن العثور عليها أبدًا.

أنا ! أنا الرعد، المكبوت في الصدور - ينفجر عبر الأفق المخطط بالرمادي، النيران الكهربائية تومض في عيناي!  لكنهم ما زالوا يطلبون مني أن أبتسم. أبتسم وأطوي. أبتسم وأركع.

أسير في الشوارع بشرارات تتلألأ في قبضاتي، كل خطوة هي ترنيمة مكسورة للمستقبل. لكنهم يخبرونني أن المستقبل ليس لي.

يقولون، "يجب أن تختار!" ويضحكون عندما أختار الخطأ، مرارًا وتكرارًا، أتعثر فوق حطام إخفاقاتهم.

أطرق أبواب نفسي، والتروس تطحن وتئن تحت وطأة هذا الاختيار، هذه الحرية الرهيبة عديمة الفائدة التي باعوها لنا ملفوفة بالسلاسل.

نحن! النار التي لا تموت أبدًا. نحن نحترق ونحترق، ولكن ليس بما يكفي أبدًا. ليس بما يكفي لإضاءة النجوم.

استيقظت في ظل منزل لم يكن موجودًا أبدًا، جدران مصنوعة من الأصوات، ناعمة وهادئة.

لكنها تغني لي بقوة، تغني لي بالكامل، وكأنني مصنوع من الحديد، مضغوط في شيء جديد.

كل نغمة هي خيار لا يمكنني اختياره.

أجلس على طاولة بلا كرسي، يطعمونني في صمت، الطبق أكبر من أن تتحمله يداي.

أتذوق اسمي، لكنه يتغير مع كل قضمة. أبتلع بقوة، لكن الوزن يبقى. أنا مثقل برغبتي في الحرية.

لكن قدمي مقيدتان بالجذور، الجذور التي لم أغرسها قط ولم ألمسها قط. كيف يمكنني المشي وأنا الأرض؟ كيف يمكنني الطيران وأنا الهواء؟

صوت أمي هو النهر. يحملني، لكنني لا أسبح. أطفو، أسقط، أرتفع - لكنني لا أكسر السطح أبدًا.

تخبرني أنني لها، لكنني لا أعرف أغنيتها.

الحجر يتكلم دون أن يتكلم. يخبرني عن عالم يتجاوز الكلمات، صمت يرن أعلى من أي صوت.

أمد يدي إليه - هذا الهدوء، هذا الهدوء التام - لكن يدي تمر من خلاله، مثل لمس الدخان، مثل الإمساك بالأفق.

أقف على حافة البحر، تتلاطم الأمواج عند قدمي مثل الذكريات، تتلاشى قبل أن أتمكن من التقاطها.

لا أعرف ما هي، فقط أنها ملكي.

أريد أن أكون الحجر الذي لا يتحرك، الذي لا يشعر بمرور العالم.

لكنني البحر. أتحطم وأسقط، مرارًا وتكرارًا، ولا يمكنني أبدًا أن أتماسك لفترة كافية لأصبح ساكنًا.

هكذا أتحدث، لكن صوتي مليء بالثغرات. الكلمات تتساقط من خلالي، وتتناثر على الرمال. لم تعد ملكي. إنها ملك البحر، والريح، والحجر. وأنا لست أكثر من الصمت الذي يلي ذلك.

هناك أغنية عالقة في صدري، لكن حلقي لن يتخلى عنها. إنها ثقيلة، مثل ثقل أحلام لم تُنطق. السماء واسعة جدًا، بعيدة جدًا بحيث لا يصل صوتي.

أنا القفص والطائر، محبوس في رقصة بمفتاح لا أستطيع العثور عليه. أسير في هذه الشوارع المرصوفة برغبات قديمة. كل خطوة هي ذكرى لم أصنعها أبدًا، حياة لم تكن لي، ومع ذلك أحملها في عظامي.

شبح يعيش هنا -لكن الشبح هو أنا، ينتظر جسدًا ليعود إليه. أبحث عن الملاحظة، تلك التي ستفتح أنفاسي، لكنها تفلت مني. إنها هناك في الظلام، خلف الشمس، تحت المطر - ولكن عندما أحاول الوصول إليها، لا أجد سوى الظلال.

أصرخ، ولكن لا صوت يأتي. فقط صدى ما أردت قوله، همسة تسقط قبل أن تصل إلى الأرض.

أدفنها عميقًا في الأرض، وأتمنى أن تنمو لتصبح شيئًا أستطيع غنائه.

0 التعليقات: