إن الثورة التحريرية الجزائرية التي اندلعت في الأول من نوفمبر 1954 تشكل لحظة محورية في تاريخ البلاد، إذ شكلت فصلاً حاسماً في كفاح الجزائر من أجل الاستقلال عن الحكم الاستعماري الفرنسي. وبعد مرور سبعين عاماً، تظل الثورة رمزاً للحرية والمقاومة والفخر الوطني للجزائريين. إن المبادئ الأساسية لهذه الانتفاضة ــ الحرية والوحدة والسيادة والعدالة الاجتماعية ــ محفورة بعمق في الوعي الجماعي للشعب الجزائري. ومع احتفال البلاد بهذه الذكرى، يتأمل العديد من الجزائريين بشكل نقدي قيادتهم، ويتساءلون عما إذا كان النظام الحالي يحترم هذه المبادئ أم يخونها.
على مدى العقود الأخيرة،
اعتُبِرت العديد من تصرفات النخبة الحاكمة بمثابة خيانة للمبادئ الأساسية للثورة. ويزعم
العديد من الجزائريين أن حكومتهم انحرفت عن مُثُل السيادة وتقرير المصير ومناهضة الإمبريالية،
وهي المُثُل التي حارب من أجلها الملايين وضحوا بحياتهم. وتُعَد حركة الاحتجاج
"الحراك"، التي بدأت في فبراير/شباط 2019، مظهراً حديثًا وحيويًا لهذه الإحباطات.
وقد كانت حركة الحراك مدفوعة بمطالبات بإصلاح جذري للنظام السياسي، ومعارضة الفساد
الراسخ، والركود السياسي، والحكم الأبدي على ما يبدو لنخبة معزولة.
لقد رأى الجزائريون
في الحراك محاولة لاستعادة الروح الثورية لعام 1954، وكانت مسيراته مليئة برموز ثورة
التحرير. ومع ذلك، ردت الحكومة بأساليب قاسية، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية والترهيب
والقيود على حرية التعبير والتجمع. وكان رد فعل السلطات العدواني على احتجاجات الحراك
بمثابة دليل للعديد من الجزائريين على أن قادتهم فقدوا بصرهم بمبادئ الثورة. وبدلاً
من دعم دعوة الجيل الجديد للتغيير، اختاروا تعزيز السلطة، وخنق التطلعات الديمقراطية
وتجاهل دعوات الشفافية والمساءلة.
كان أحد المبادئ الأساسية
لثورة التحرير الجزائرية هو العدالة الاجتماعية، التي تهدف إلى بناء مجتمع يمكن للجزائريين
أن يزدهروا فيه، خاليًا من القمع والاستغلال. ومع ذلك، يجد العديد من الجزائريين أنفسهم
اليوم محبطين بسبب الركود الاقتصادي، ومعدلات البطالة المرتفعة، وعدم كفاية الوصول
إلى الخدمات الأساسية. وعلى الرغم من ثرائها بالموارد الطبيعية - وخاصة النفط والغاز
- فإن الجزائر تكافح مستويات عالية من الفقر، وتفاوت كبير في الثروة، واقتصاد يعتمد
بشكل مفرط على صادرات الهيدروكربون.
ويزعم المنتقدون أن
الطبقة الحاكمة فشلت في تنويع الاقتصاد أو الاستثمار بشكل كاف في البنية الأساسية والتعليم
والرعاية الصحية. ويجد الشعب الجزائري نفسه في حلقة مفرغة من الفقر والبطالة، مع وجود
عدد قليل من السبل لتمكينه اقتصاديا. ويُنظر إلى سوء الإدارة الاقتصادية والافتقار
إلى الفرص على أنهما فشل في احترام المبدأ الثوري للعدالة الاجتماعية. وتظل فوائد موارد
الجزائر مركزة بين النخبة، في حين يُترَك المواطن العادي ليصارع المصاعب الاقتصادية
التي تتعارض مع المثل العليا للتحرير المتمثلة في المساواة والازدهار المشترك.
كما أكدت ثورة التحرير
على أهمية الوحدة. فخلال النضال من أجل الاستقلال، وضع الجزائريون خلافاتهم العرقية
والإقليمية والدينية جانباً ليقفوا صفاً واحداً في مواجهة عدو مشترك. وكانت هذه الوحدة
حاسمة لنجاح الثورة، حيث عملت كحجر أساس للهوية الوطنية. ومع ذلك، فإن تكتيكات الطبقة
الحاكمة التفرقة زرعت الفتنة بين الجزائريين، وكسرت الوحدة التي كانت تحدد هوية الأمة
ذات يوم.
ولقد اتُهِمت الحكومة
باستغلال الاختلافات الإقليمية والعرقية للحفاظ على السيطرة، واستغلال المخاوف من عدم
الاستقرار لتبرير التدابير الاستبدادية. ومن خلال اللعب على هذه الانقسامات، تعمل الطبقة
الحاكمة على تقويض روح الوحدة التي كانت تشكل جوهر روح الثورة. وبالإضافة إلى هذه التكتيكات
الانقسامية، يستخدم النظام في كثير من الأحيان القمع السياسي لإسكات الأصوات المعارضة.
ويواجه الصحفيون والناشطون وأعضاء المعارضة المضايقات والرقابة والسجن إذا انتقدوا
الحكومة أو دعوا إلى الإصلاحات. ويُنظَر إلى هذا القمع السياسي باعتباره اعتداءً على
المبدأ الثوري المتمثل في الحرية، حيث كان ينبغي للحوار المفتوح والتعبير والتعددية
السياسية أن تصبح جزءاً من النسيج الوطني.
إن مبدأ آخر راسخ الجذور
في الثورة التحريرية الجزائرية هو مفهوم السيادة ـ حق الشعب الجزائري في التحكم في
مصير أمته، بعيداً عن التدخل الأجنبي. فبعد تحقيق الاستقلال، أصبحت الجزائر من أشد
المؤيدين لمناهضة الاستعمار وعدم الانحياز في الحرب الباردة. ولكن المنتقدين اليوم
يزعمون أن اعتماد الحكومة الجزائرية على التحالفات والمصالح الأجنبية يقوض السيادة
الوطنية.
إن هذا الأمر يتجلى
بوضوح في اعتماد الجزائر اقتصادياً على صادرات النفط والغاز، وخاصة إلى أوروبا. وفي
حين تقدم الحكومة نفسها باعتبارها جهة فاعلة مستقلة وغير منحازة، فإنها تواجه ضغوطاً
من قوى أجنبية للحفاظ على إمدادات الطاقة المستقرة. وقد أدى هذا الاعتماد إلى خلق نقاط
ضعف، حيث أصبح الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الجزائر متشابكاً مع المطالب الدولية
والمناورات الجيوسياسية. وبالنسبة للعديد من الجزائريين، فإن هذا النفوذ الخارجي وتكيف
الحكومة معه يمثل خيانة للسيادة التي اكتسبتها الثورة بشق الأنفس.
ولم تكن المبادئ الثورية
سياسية أو اقتصادية فحسب؛ بل كانت ثقافية أيضاً. فقد مثلت ثورة التحرير استعادة للهوية
واللغة والتراث الجزائري، الذي تعرض للقمع المنهجي تحت الحكم الفرنسي. وفي السنوات
التي أعقبت الاستقلال، كان الجزائريون يفتخرون بإعادة بناء مؤسساتهم الثقافية والاحتفال
بتراثهم. ومع ذلك، فإن نهج الطبقة الحاكمة تجاه الثقافة الجزائرية اليوم أثار المخاوف.
فهناك شعور واسع النطاق بأن الهوية الثقافية أصبحت سلعة أو يتم تجاهلها لصالح الحفاظ
على السلطة.
لقد سعت الدولة إلى
السيطرة على الرواية التي تدور حول ثورة التحرير، وتجاهلت في بعض الأحيان التضحيات
التي قدمها المواطنون العاديون. وكثيراً ما تستغل النخبة الحاكمة الرموز والخطابات
الثورية لإضفاء الشرعية على سيطرتها على السلطة. ومع ذلك، يُنظر إلى هذا الاستخدام
للرموز الثورية في كثير من الأحيان على أنه أجوف، مجرد أداة لاسترضاء الجماهير بينما
تظل روح الثورة غائبة عن الإجراءات الحكومية. ويُنظر إلى هذا التآكل في الذاكرة الثورية
على أنه خيانة للتضحيات التي قدمتها الأجيال السابقة، وتشويه للمبادئ التي أدت إلى
استقلال الجزائر.
إن الشعور بأن حكام
الجزائر خانوا مبادئ الثورة التحريرية ليس خالياً من العواقب الوخيمة. فقد أدى هذا
الشعور إلى تعزيز السخرية والانفصال على نطاق واسع، وخاصة بين الشباب الجزائري الذين
يشعرون بالغربة عن النظام السياسي الذي يعتبرونه فاسداً وغير ممثل. ولهذه الإحباطات
آثار كبيرة على مستقبل الجزائر، حيث تواجه البلاد تحولات ديموغرافية والحاجة الملحة
إلى التحديث الاقتصادي والإصلاح السياسي. وإذا استمرت الطبقة الحاكمة في تجاهل هذه
القضايا، فإنها تخاطر بعزل الشباب بشكل أكبر، وتعميق الانقسامات الاجتماعية، وإهدار
الفرصة لتجديد الروح الثورية في الجزائر بطرق تتوافق مع التحديات المعاصرة.
مع احتفال الجزائر
بالذكرى السبعين لثورتها التحريرية، فإنها لحظة للتفكير في إرث ذلك النضال والمسؤوليات
التي يفرضها على النظام الحالي. إن الخيانة الملموسة لمبادئ الثورة من قبل حكام الجزائر
تشكل مصدر إحباط عميق، مما أثار دعوات للتغيير والشفافية والعودة إلى المثل الثورية.
إن حركة الحراك والاحترام الدائم للقيم الأساسية للثورة يكشفان أن روح عام 1954 لا
تزال حية في قلوب الجزائريين. ولكي تتحرك البلاد إلى الأمام، يجب عليها استعادة قيم
نضالها التأسيسي وبناء مستقبل يكرم تضحيات أولئك الذين ناضلوا من أجل الحرية والسيادة
والعدالة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق