في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر 2024، أطلق الرئيس السابق دونالد ترامب وحلفاؤه حملة رقمية لا هوادة فيها مصممة للتأثير على الرأي العام باستخدام الذكاء الاصطناعي. تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد لتشويه المعلومات ونشر المحتوى المُتلاعب به وتعزيز روايات عدم الثقة والانقسام. ومع اقتراب موعد انتخابات 2024، أصبح الذكاء الاصطناعي سلاحًا قويًا، لا يعيد تشكيل الاستراتيجيات السياسية فحسب، بل وأيضًا طبيعة الحقيقة والخطاب العام.
فما هي الفروق الدقيقة
في حرب الانتخابات التي يقودها الذكاء الاصطناعي، وما تأثيراتها على الإدراك العام،
والمشهد السياسي الأوسع، والآثار الأخلاقية التي تثيرها.
في عام 2020، عندما
خسر دونالد ترامب محاولته لإعادة انتخابه، رفض هو وأنصاره قبول النتائج، زاعمين أن
الانتخابات قد سُرِقَت منهم . ولا تزال هذه القناعة الراسخة تشكل حجر الزاوية في خطاب
حملة ترامب، حيث تحفز ملايين من أتباعه الذين يشعرون بالخيانة من قبل ما يعتبرونه
"مؤسسة" فاسدة. واليوم، يتم توظيف الذكاء الاصطناعي لتضخيم هذه المشاعر بطرق
لم يكن بوسع وسائل الإعلام التقليدية أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي وحدها تحقيقها.
إن حلفاء ترامب يستخدمون المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي - الاقتباسات
المزيفة، والخطب المزيفة، ومقاطع الفيديو المعدلة - لإلقاء الشكوك بشكل منهجي على المعارضين
وتشكيل تصورات العملية الانتخابية نفسها.
لقد أدت القدرة الفريدة
للذكاء الاصطناعي على إنشاء محتوى مقنع يشبه الإنسان إلى ظهور صناعة كاملة تركز على
المعلومات المضللة. إن السهولة التي يمكن بها للذكاء الاصطناعي إنشاء أو التلاعب بالمحتوى
المرئي والمسموع والنصي تجعل من الممكن إنتاج خطابات مزيفة لا يمكن تمييزها تقريبًا
عن الواقع. على سبيل المثال، تُظهر مقاطع الفيديو التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي
سياسيين يدلون بتصريحات تحريضية لم ينطقوا بها أبدًا. تعمل الصور المعدلة والصوت المزيف
العميق على تشويه الخطب العامة والمقابلات، مما يضيف طبقات من الغموض ويغذي الشكوك
حول صحة أي محتوى، سواء كان حقيقيًا أم لا.
إن أحد الجوانب الأكثر
لفتا للانتباه في حملة ترامب لعام 2024 هو استغلالها لنفس موضوعات الاحتيال والخداع
التي ميزت خسارته في عام 2020. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة قوية، فقد أصبحت قاعدة
ترامب أكثر ترسخًا في اعتقادها بأن نظامًا سريًا يعمل ضدهم.
يكشف استطلاع حديث
أن ما يقرب من 36٪ من الأمريكيين يشعرون بالحرمان من حقوقهم ويرون أن النظام السياسي
مزور - وهو تصور تستمر حملات التضليل المعززة بالذكاء الاصطناعي في تعزيزه. والنتيجة
هي تأثير نفسي قوي، حيث يكون الناخبون الذين يشعرون بالتهميش أكثر عرضة للسرديات التي
تؤكد شكوكهم وتثبت غضبهم.
إن أدوات الذكاء الاصطناعي
فعالة بشكل خاص في استغلال هذا التحيز النفسي، من خلال إنشاء محتوى يتحدث مباشرة إلى
هذه المشاعر. قد يظهر منشور نموذجي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي ديمقراطيًا بارزًا
يعترف بالتلاعب بالانتخابات، أو قد يصور مقطع فيديو مزيف ترامب على أنه "محارب
وحيد" يقاتل نظامًا فاسدًا نيابة عن أنصاره. هذه القصص مصممة خصيصًا لتناسب النظرة
العالمية لقاعدة ترامب، وتتردد صداها على مستوى أعمق وأكثر عاطفية مما يمكن أن تحققه
التغطية الإخبارية الواقعية.
إن استخدام الذكاء
الاصطناعي للتلاعب بالمحتوى ليس مجرد ظاهرة تقنية؛ بل هو ظاهرة اجتماعية ذات عواقب
بعيدة المدى. ومن خلال خلق تدفق مستمر من المعلومات المعدلة، يساهم حلفاء ترامب في
خلق بيئة إعلامية مجزأة حيث يعيش المواطنون في غرف صدى معزولة. وفي هذه المساحات الرقمية،
يعزز المحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي التحيزات القائمة، مما يجعل من الصعب على
الأفراد فصل الحقيقة عن الخيال.
إن هذا له تأثير عميق
على الخطاب العام، الذي أصبح مستقطبا بدرجة غير مسبوقة. لم تعد المناقشات السياسية
تدور حول وجهات نظر مختلفة حول السياسات، بل أصبحت متجذرة في كثير من الأحيان في حقائق
غير متوافقة جوهريا. بالنسبة لمؤيدي ترامب، أصبحت فكرة "الانتخابات المسروقة"
مسألة إيمان وليس دليلا، مما يجعل الحوار الهادف مع المعارضين مستحيلا تقريبا. يعمل
المحتوى الذي تحركه الذكاء الاصطناعي على تضخيم هذه الانقسامات، مما يدفع الأفراد إلى
معسكرات حزبية وتآكل القواسم المشتركة التي تعتمد عليها المجتمعات الديمقراطية.
إن المخاوف الأخلاقية
المحيطة بدور الذكاء الاصطناعي في السياسة عميقة. فمن ناحية، يمتلك الذكاء الاصطناعي
القدرة على تعزيز المشاركة الديمقراطية من خلال تزويد الناخبين بمعلومات شخصية حول
السياسات والمرشحين. ومن ناحية أخرى، عندما يُستخدم كأداة للتلاعب، يصبح الذكاء الاصطناعي
تهديدًا للديمقراطية، ويقوض الشفافية والمساءلة التي تشكل ضرورة أساسية للعملية الانتخابية.
ولكن السؤال الأساسي
الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ينبغي وضع حدود لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات السياسية؟
ففي حين تشكل حرية التعبير حجر الزاوية في الديمقراطية، فإن القدرة على توليد معلومات
مضللة ضارة بهذه السهولة تتحدى المفاهيم التقليدية لحرية التعبير. ويدعو العديد من
الخبراء الآن إلى فرض لوائح أكثر صرامة على استخدام الذكاء الاصطناعي في السياقات السياسية،
ويقترح البعض أن يتم وضع علامات واضحة على جميع المحتويات السياسية التي يتم إنشاؤها
بواسطة الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، يظل فرض هذه القيود تحديا هائلا، حيث يمكن أن ينتشر
محتوى الذكاء الاصطناعي بسرعة وعلى نطاق واسع عبر المنصات اللامركزية.
وعلاوة على ذلك، هناك
مسألة المساءلة. فإذا أنتج نظام الذكاء الاصطناعي محتوى مضللاً أو ضاراً، فمن المسؤول
ــ منشئ أداة الذكاء الاصطناعي، أو الشخص الذي استخدمها، أو المنصة التي استضافتها؟
إن القوانين الحالية غير مجهزة لمعالجة هذه الأسئلة، حيث تجاوز التطور السريع لتكنولوجيا
الذكاء الاصطناعي الأطر القانونية. وإلى أن يتم وضع قواعد واضحة، فقد تظل الساحة السياسية
عُرضة لتكتيكات التلاعب المتطورة على نحو متزايد.
ومع اقتراب موعد الانتخابات
الرئاسية الأميركية في عام 2024، أصبح دور الذكاء الاصطناعي في تشكيل الإدراك العام
بالغ الأهمية بحيث لا يمكن تجاهله. فما بدأ كأداة للأتمتة والتخصيص تطور إلى أداة قوية
للتأثير السياسي، قادرة على طمس الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والخداع. وبالنسبة لأنصار
ترامب، يعزز المحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي رؤية عالمية تبرهن على غضبهم وعدم
ثقتهم، مما يخلق حلقة مفرغة يصعب كسرها.
وللحفاظ على القيم
الديمقراطية، من الضروري معالجة التحديات الأخلاقية والتنظيمية التي يفرضها الذكاء
الاصطناعي في السياسة. ويتعين على صناع السياسات وشركات التكنولوجيا والجمهور أن يعملوا
معا لخلق الضمانات التي تحمي نزاهة العمليات الانتخابية. وفي حين سيستمر الذكاء الاصطناعي
بلا شك في لعب دور في الحملات السياسية، فإن استخدامه لابد أن يكون متوازنا مع الشفافية
والمساءلة لمنع تآكل الثقة في المؤسسات الديمقراطية. وفي مواجهة المعلومات المضللة
التي تغذيها الذكاء الاصطناعي، فإن مرونة الديمقراطية تعتمد على مواطنين مطلعين ومنخرطين
بشكل نقدي، وقادرين على التنقل في مشهد معلوماتي متزايد التعقيد.
قد يسجل موسم الانتخابات
هذا في التاريخ باعتباره أول "انتخابات باستخدام الذكاء الاصطناعي"، مما
سيشكل سابقة ستحدد كيفية تقاطع التكنولوجيا والسياسة لسنوات قادمة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق