تمتد أمامي سنوات السبعينات، شريطا متعرجا من أشعة الشمس يتكشف عبر الزمن، حيث يتنفس شبابي مثل ريح عتيقة، معطرًا بالبهارات وحبر الكتب المستعارة. كنت مسافرا حالمًا، أجول في أزقة العشرينات من عمري، متأبطا أشعار نزار قباني المنقوشة على جدار قلبي مثل نبوءة سرية.
في حومة "قبة السوق"، ارتفعت المكتبة مثل معبد من خرسانة الهمسات. ملأت ذراعي بكتب الحب، صفحاتها المرتعشة بأبيات شعرية غير منطوقة. رائحة الورق القديم متشابكة مع رائحة القهوة النفاذة، المتبلة بالقرنفل ، التي تختمرها أمي هنية والدة صديقي في مطبخها الأبدي. كانت كل رشفة رشفة يتيمة من الكون، دافئة ولا نهائية.
كانت تجمعنا نحن -أولاد
الحي، الحالمون على رأس الدرب- تحت سماء مخطوطة بنوتات موسيقية. كان الضحك والقهقهات
تتساقط من شفاهنا كالمطر على أسطح المنازل القديمة. وكانت قيثارتي تدندن بأسرارها؛
وكانت آلة الجرامافون تسجل عميق أرواحنا. كنا ننسج الأغاني مثل خيوط العنكبوت، هشة
لكنها غير قابلة للكسر، تتشبث بحواف الذاكرة.
كانت الحياة حينها
أشبه بعملة معدنية ألقيت في نافورة روح لا مبالية. لم يكن للمال أي سلطان على أفكاري؛
كانت الموسيقى هي خبزنا، أصفادا ذات سيادة مزينًة بالألحان. كما أصبحت السينما بوابة
لاستكشاف جزر خرى. اختفينا في ظلال ملاحم الأفلام الهندية والمحاربين الصينيين، وقصصهم
المحفورة على معدن الشاشة مثل الأحرف الرونية القديمة.
كانت القصائد تنبت
في دفتر ملاحظاتي، مثل زهور برية من الحبر والشوق. كنت أرسلها عبر موجات الأثير، إلى
الشاعر العظيم الذي حكم الراديو بصوت يشبه صوت الشفق الأرجواني . حلقت كلماتي بأجنحة
غير مرئية، وأصبحت جزءًا من نسيج من الأحلام والسكون.
كانت سنوات السبعينات بحراً من الظلال المخملية، تبتلع الحدود
بين الليل والنهار، بين الواقع والهلوسة. كانت أوتار قيثارتي تلمع مثل حرير العنكبوت تحت
ضوء القمر. كانت فناجين القهوة مفعمة بالنجوم، وكانت أغانينا مندسة بين المجرات. كما
أصبحت المكتبة العامة متاهة من الحب، كل كتاب عبارة عن دليل يأخذني إلى أعماق نفسي.
هل كان حقيقياً؟ أم
كان سراباً استحضره خيال الشباب المحموم؟ ربما كان الطريق الذي ضحكنا عليه خيطاً يتدلى
من حافة الأبدية. ربما كان قيثارتي طائر الفينيق، وموسيقاها رماد الأحلام المنسيّة.
ربما كان الجرامافون بوابة إلى بُعد آخر، حيث لا تزال أصواتنا تتردد في الآفاق .
أحياناً، في هدوء عمري،
أسمع سنوات السبعينات تنادي، صوتها سيمفونية كالزجاج المكسور والغبار الذهبي. تنهض
قصائدي من نومها، وتهمس بأسرار نسيتها منذ زمن طويل. تتلألأ شوارع "قبة السوق"
مثل السراب، وتطرز حجارتها خطواتي. تدور الجراموفون بلا نهاية، مسجلاً صمت الماضي.
كانت سنوات السبعينات
حلماً في جوف حلم في جوف حلم ، لوحة سريالية مرسومة برموز لا يمكن تفسيرها. تحول الصبية
على رأس الطريق إلى ظلال، ويتحول ضحكاتهم إلى أصداء ترقص مثل خيوط الشفق. انقطعت أوتار
قيثارتي، وتسربت موسيقاها إلى شقوق الزمن. أفرغت أكواب القهوة من النجوم، ولم يتبق
سوى بقايا مريرة من الشوق.
لكن الحلم لا يزال
قائماً.. الأغاني باقية.. القصائد باقية.. يستمر الجراموفون ذو الظلال المخملية في
الدوران، متحدياً جاذبية العمر، بقايا سنوات السبعينات المعجزة حيث تعانق الواقع والخيال
تحت القمر الأحمر.
يتحول الجرامافون إلى
بوابة، ومن خلاله، أسمع ضحكات الأقران الذين لم أعد أعرفهم. ترتفع أصواتهم مثل دخان
قزحي ، ينسجون الحكايات في السماء. تطن قيثارتي تحت الحجاب، وأوتارها مضبوطة على معزوفة
لا تفهمها إلا الأحلام. وهناك ، أسير عبر "قبة السوق" مرة أخرى، باحثًا عن
معنى يفلت من العالم اليقظ.
أشعر بتأثير الشاعر
في كل نفس، والرموز والاستعارات والإيحاءات الغريبة لكلماته تتوافق مع فوران شبابي.
هل كانت السبعينات مجرد موسم؟ أم كانت كونًا ـ كونًا خفيًا ـ يتلألأ الآن ويختفي من
الوجود؟ ربما يعرف القمر ذلك. وربما تتذكر فناجين القهوة، التي أصبحت الآن بقايا متناثرة
من نثار النجوم.
كان كل ركن من أركان
تلك السنوات يحتوي على بوابة: المكتبة، صرح الحقائق التي يتم همسها؛ والسينما، ملحمة
مضاءة بالنجوم؛ والطريق، ساحة "الهديم" بطقوسها غير المعلنة. وفي كل قصيدة
أرسلتها إلى الإذاعة ـ شريحة من روحي تسعى إلى البقاء في عالم مؤقت ـ كانت هناك قطعة
من الكون تربطني بالخلود.
الآن، في هذا العصر
الهادئ، أرى أن السبعينات لم تكن مجرد زمن. بل كانت مكانًا ـ أرضا حيث تتفكك قوانين
الفيزياء، وتصبح الموسيقى الجاذبية التي تربطنا جميعًا.
لا تزال أغنية "القمر
الأحمر" تهمس من خلال شقوق الزمن، وتجدني نغماتها في الأحلام. لا يزال الجرامافون
يدور، ويحمل صوته أسرار الماضي إلى مستقبل لا يمكننا إلا أن نتخيله.
متاهة الذاكرة لا نهاية
لها. ومع ذلك، في أعماقها، أجد راحة غريبة. يذكرني الشاعر العالمي بأن الماضي ليس ثابتًا؛
بل إنه حي، يتنفس من خلال الفراغات التي ننسى أن نملأها. وهكذا، أغمض عيني، وتعود إلي
السبعينات، ليس كأثر قديم ولكن ككشف.
0 التعليقات:
إرسال تعليق