الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يناير 31، 2025

"بين أقواس سماوية وهمهمة أحلام البحر" عبدو حقي


كان نصفه العالي مائلا على حجارة شاحبة، مسافرًا عالقًا بين حصنين منحنيين للزمن والذاكرة. من مسافة بعيدة، قد يقولون إنه كان يحرس البحر المتثائب خلفه ، أو ربما ينتظر رسولا زائرًا صامتًا من السماء. كان قميصًه أخضر لامعًا يلتصق به مثل سحلية فضولية جاثمة على جدار قديم، وقبعة فيروزية - زرقاء مثل صرخة البلبل التي لم تولد بعد - تحجب عينيه عن وهج الظهيرة المتلألئ. يحمل حقيبة نحيفة على جانبه، يرتديها على كتفه وكأنها وحش نصف مروض يحتوي على أسرار عالم غير بعيد.

لقد غطى الصمت المشهد برمته ، ولم يكسره سوى ارتفاع وانخفاض الأمواج الإيقاعي، ونبضات قلب بطيئة تتردد تحت حجاب الشمس الشفاف. بدا الأمر وكأنه يهمس: أنت هنا الآن، على عتبة شيء غير حقيقي وحقيقي، محصور بين السماء الزائلة وأعماق الزمن الدائمة. ربما كان هذا الصوت ينتمي إلى المسافر نفسه - صدى الفكر ينزلق بين الأحجار. أو ربما كانت القلعة تتحدث، كتلة من الحجر الرملي في كل مرة، تنطق المقاطع الأخيرة من لغة منسية منذ زمن طويل.

إذا كان المسافر يشعر بأي شكوك بشأن الوقوف على هذا الجدار الهادئ، فإنه لم يظهر. انحرف بصره نحو حاجز الأمواج، تلك القطع العملاقة من اللغز التي شكلت نسيجًا هندسيًا على الشاطئ. ربما كانت آثار أقدام عملاق نائم خاض ذات يوم في المحيط. ظلت كل كتلة مرتبة بشكل مثالي، وهي شهادة منظمة على الأيدي البشرية التي تشكل حواف الأرض البدائية. ومع ذلك، في الزاوية المتلألئة من الحلم، بدا الأمر أيضًا وكأنها تعيد ترتيب نفسها، وكأنها أحرف في أبجدية كونية عظيمة، تتغير في كل مرة يرمش فيها المسافر.

كان لون قميصه لامعاً إلى الحد الذي جعله يهدد بالقفز بعيداً عن جذعه والتحول إلى مخلوق خاص به. في بعض الأحيان كان يشبه سمكة ببغاء تنزلق بين كاتدرائيات مرجانية في مدينة تحت الماء. وفي أحيان أخرى، كان التوهج اللاذع لفاكهة غير ناضجة، لا تزال متمسكة بغصن أصلها. كانت نسائم البحر تداعب القماش، مما يمنح اللون الأخضر حياة تتجاوز الجسد. قد يشك أي شخص يراقبه أنه إذا وقف بسرعة كبيرة، فسوف يترك هذا اللون خلفه - شبح متلألئ من لون النيون.

لم يكن وحيدًا، بالطبع، لأن البحر كان رفيقًا بلا شكل. كانت وضعية المسافر، على الرغم من استرخاءها، تحمل إيحاءً خافتًا باليقظة. كان يستمع إلى البحر، أو ربما إلى بعض الرنين الأعمق تحت الأمواج. امتزج كل نفس يأخذه مع هدوء الرغوة البعيدة التي تذوب على حاجز الأمواج. كانت طيور النورس تحوم فوق رأسه، وتنقض أحيانًا للترحيب بالمحادثة الصامتة التي تتكشف بين المسافر والمد. كانت صيحاتهم متناثرة في الريح، تذكارات غير ملموسة من السماء الدوامة.

بدا أن القلعة نفسها تتوسع وتتقلص من حوله، وجدرانها الحجرية الرملية تتنفس بقصص قديمة. كانت كتلة حجرية، على شكل نصف كرة، تحوم على الجانب الأيسر من المسافر، وكأنها تغذي أوهامًا سرية في صمتها اللبني. كتلة أخرى على اليمين تضغط بقوة مثل الحارس، وتشكل قوسًا ضيقًا من الهدوء يؤطر رأس المسافر وكتفيه. في بُعد أشبه بالحلم، يمكنك بسهولة تخيل هذه الأحجار تتحدث: لقد وقفنا هنا ألف حياة، في انتظار وصول اللون الأخضر.

مد يده إلى حقيبته للحصول على زجاجة ماء صغيرة، شيء متواضع قد ظهر، في مملكة الأوهام الدوامة، مثل جوهر البحر المضغوط. توقف، وأدار الزجاجة بين يديه، مذهولًا بسطحها. انزلق انعكاس جدار القلعة عبره مثل ثعبان كسول، يستحضر صورًا لمتاهات منحوتة من زجاج المحيط. ابتسم المسافر وكأنه يتذكر جملة ضالة من قصيدة مهجورة: حيث يجري الانعكاس، قد يتبعه الحلم.

أخذ رشفة، وفي تلك الإشارة البسيطة، تنهدت القلعة. وفجأة، بدأت كتل الأمواج التي كانت تلوح في الأفق تتحرك في شمس الظهيرة، فتشكل شكلاً جديدًا: صورة ليد عملاقة. امتدت عبر الماء، وكان كل حجر منها إصبعًا منحوتًا من نسيج الكون. أغمض المسافر عينيه مندهشًا، لكنه لم ينهض. كان راضيًا بالمراقبة، وترك الأوهام ترفرف للداخل والخارج مثل البتلات العائمة على سطح بركة. في الهدوء السريالي، شعر بفكرة مريحة مفادها أنه كان مجرد جزء من تحول أكبر: القلعة، والمياه، والسماء، ووجوده الخاص يندمجون في شيء متعدد الألوان وسائل.

ظهرت له ذكريات الميادين المغلقة - ربما فناء الطفولة أو تقاطع المدينة - في ذهنه. ومع ذلك، تلاشت هذه الذكريات بنفس السرعة التي نشأت بها، وحل محلها نداء النوارس العابر. "بقي المحيط، زفيرًا من الإمكانية. تحول وضع المسافر، وانحنى كتفه بشكل أكبر على الكتلة المنحنية خلفه، وكأنه يحث القلعة نفسها على الكشف عن المزيد. أشار التوتر الدقيق في الهواء إلى تيار كوني يدور تحت الحياة اليومية.

ثم، وكأنها تستجيب لطلبه غير المنطوق، بدأت الحجارة بالقرب من مرفقه تهمس. كانت لغتها واحدة من الحبوب المتحركة والطنين الأكثر رقة، تذكرنا بالنحل البعيد في بستان سري. لم ينزعج المسافر. بدلاً من ذلك، ابتسم نصف ابتسامة، واستمع باهتمام. كان الصوت يذكرنا بقوقعة محارة عملاقة، تلتقط النبض الكوني. ظهرت الكلمات في ذهنه: قوس، أزرق، مرساة، طيران. تدحرجت عبر وعيه مثل الجواهر من صندوق مقلوب، كل كلمة تتلألأ بالرنين، رغم أنه لم يستطع تمييز معنى دقيق.

خلف جدار القلعة، كان المحيط يلمع في شمس الظهيرة، لكنه كان يوحي أيضًا بأعماق خفية. إذا حدق المسافر لفترة كافية، فيمكنه رؤية انعكاس القلعة في الماء. كان يتلألأ، ويحول حاجز الأمواج إلى قوس. ربما كان بوابة إلى واقع مجاور، حيث تمشي الأسماك على الأرض، مرتدية أحذية مصنوعة من رغوة البحر العائمة، وتتلو طيور النورس أبيات الشعر بألسنة قديمة. سمح المسافر لنفسه بالانزلاق إلى هذا الحلم اليقظ، وترك الوقت كما يقاس بالساعات، واستسلم لشعور الخلود الذي يقاس فقط بهدوء الماء على الحجر.

بعد لحظة، أدرك أن القلعة كانت تتحرك مرة أخرى، أو ربما كانت مجرد صدى للحركة. بدت الكتل التي كانت تؤطره ذات يوم منحنية إلى الخارج، وتشكل ممرًا غير مرئي. كان لديه إحساس غريب بأنه يتم قيادته إلى عمق أكبر في حلم القلعة، وكأن الهيكل نفسه لديه متاهة مخفية خلف كل كتلة. هل كان من الممكن أن تكون أبواب الأوهام الجديدة قد انفتحت بصمت خلف المسافر؟

في تلك اللحظة الفاصلة، ارتفعت القلعة إلى الأعلى مثل سرب من الزرزور، وذابت جدرانها الزائلة في دوامات من الحجر الرملي. وظل المسافر واقفاً في الهواء، والبحر يدور خلفه في دوامة زرقاء. وهبت عليه ريح هشة تحمل رائحة الملح الدافئ بأشعة الشمس وذكريات خافتة عن رحلات مجهولة. وبشكل سخيف، ظهرت ريشة صغيرة من اللون الأزرق المخضر في زاوية رؤيته، ترقص في الريح مثل طفل مرح. وأدرك أن هذا كان لون قبعته التي تهرب إلى النسيم، وهي علامة على أن الأوهام والأشياء لم تعد مقيدة بقواعد عادية.

رمش المسافر، فوجد نفسه مرة أخرى متكئاً على جدار القلعة، والحجارة لا تزال في مكانها المعتاد. واختفى التحول العابر. وأطلق نفساً بطيئاً. استمرت طيور النورس في الثرثرة فوق رأسه، وظلت الأمواج هادئة بشكل دوري، واستأنفت القلعة مراقبتها الصارمة. ومع ذلك، ظل شيء ما يتردد في قلبه - جزء من تلك اللحظة التي لا وزن لها. كان ذلك إدراكًا بأن الواقع لم يكن أبدًا صلبًا كما يبدو، وأنه في أي لحظة، قد يفتح الجدار الحجري الأكثر تواضعًا الباب أمام اكتشاف كوني.

في مكان ما في ثنايا عقله، سمع أصداء خافتة للقاء موعود. هناك، في التفاعل بين السماء والماء، والقلعة والإنسان، واللون والحجر، أحس بحوار أقدم من اللغة نفسها. بينما ضغط ظهره على الحجر الرملي، تخيل أن كل نفس يأخذه كان مدًا لطيفًا يحمله إلى عمق متاهة خيالاته الخاصة. شعر أن الحقيبة على كتفه أصبحت أخف وزنًا الآن، وكأنها لا تحتوي إلا على احتمالات.

وهكذا، ظل مترددا، في منتصف الطريق بين اليقظة والحلم، راضيا بترك البحر يتحدث. إن كانت هناك أسرار تتلاطم على الشاطئ، فإنه لم يجبرها على الظهور على السطح. بل تركها تتكشف ببطء من خلال النبض الثابت للرغوة على الصخور، منسوجة نسيجًا من الأوهام تحت أقواس الزمن الساهرة. وفي تلك الوقفة السامية، كانت روح المسافر في آن واحد حجر القلعة الهادئ والمحيط اللامتناهي، واللون الأخضر النائم والوميض المشع لشمس الظهيرة. زفر، فأجابه البحر، حاملاً همس العجائب التي لم تأت بعد.

0 التعليقات: