الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، فبراير 04، 2025

"همسات أبو الهول" نص سردي عبدو حقي

 


كانت السماء معلقة فوق الصحراء مثل غطاء علبة مجوهرات منسية، وكان الضوء يتلألأ في جوانب من الفضة والغبار القديم. كنت أسير، أو بالأحرى، يقودني تيار غير مرئي، عبر فم الزمن المتثائب. كانت الأهرامات تلوح أمامي، ليس كنصب تذكارية، بل ككائنات واعية تتمتم بالأسرار بلغة الرمال المتحركة.

ظهر لي رجل يرتدي ملابس بيضاء، وجهه محفور بصبر القرون. أشار إلى جمل بدا وكأنه انهار في نوم عميق أو تأمل عميق، وسرجه مزين بأحلام ألف مسافر. عدلت حقيبتي، وهي تعويذة جلدية لا تحمل سوى رائحة المدن البعيدة، وتقدمت للأمام. التصقت الحرارة بجلدي مثل نبوءة غير منطوقة.

ثم تغيرت الرياح.

كان الصوت هو الذي وصل إلي أولاً - همسة منسوجة من الحجر والريح، تتلوى عبر الهواء بأناقة لحن منسي. استدرت فوجدت نفسي وجهاً لوجه مع أبو الهول.

لا، ليس وجهاً لوجه. شفتان لشفتين حتى ...

امتدت اللحظة، وانحنى العالم إلى الداخل مثل داخل ساعة مطوية على نفسها. شعرت بثقل القرون تضغط على صدري، وحرارة الصحراء تتسرب إلى عظامي. لم تكن شفتا أبو الهول، الجافتان والصلبتان، حجراً بل عتبة.

قبّلت اللغز. وقبلني اللغز بدوره.

ذابت الأرض تحت قدمي. كنت بلا وزن، معلقاً بين الماضي والحاضر، بين ما كان وما كان يمكن أن يكون. همس أبو الهول - ليس بالكلمات، ولكن في الرؤى.

رأيت الأهرامات كما كانت عندما وضع الحجر الأول: تطفو في الهواء، تنبض بنبضات قلب إله منسي. رأيت قوافل الشعراء الضائعين، وأشعارهم تتبعهم مثل قطعان الدخان. رأيت ظلي يتشقق، كل شظية تسير في مسار مختلف عبر التاريخ.

ثم ساد الصمت.

عدت. لم تتحرك الشمس، ومع ذلك فقد مر زمن طويل. ظل أبو الهول كما كان دائمًا، لكنني كنت أعلم أنه يراقبني الآن، وعيناه الغائرتان مليئتان بشيء لا يمكن وصفه. ربما ابتسامة. أو تحدي.

صاح الرجل ذو اللون الأبيض. تنهد الجمل. استمرت الأهرامات في محادثتها البطيئة مع السماء.

عدلت حقيبتي، وأومأت برأسي إلى الحارس الصامت للصحراء، وابتعدت. لكنني كنت أعلم أنه في مكان ما، في متاهة الزمن، لا تزال القبلة باقية.

ولن أعود كما كنت أبدًا.

0 التعليقات: