عرف المشهد الدبلوماسي بين فرنسا ودول شمال أفريقيا، وخصوصا الجزائر والمغرب، تحولات كبيرة وخطيرة في الآونة الأخيرة، اتسمت بتصاعد التوترات مع الجزائر وتقارب استراتيجي مع المغرب. تُبرز هذه التطورات التفاعل المتشابك بين الإرث التاريخي، والنزاعات الإقليمية، وقضايا الهجرة، والاستراتيجيات الجيوسياسية.
لقد اندلعت الأزمة الدبلوماسية الأخيرة، التي وصفها المحللون بأنها الأشد منذ استقلال الجزائر عام 1961، ففي يوليو 2024 عندما أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن دعمه لمطالب المغرب المشروعة بالصحراء الغربية ما دفع الجزائر إلى استدعاء سفيرها من باريس، مما يُمثل تراجعًا كبيرًا في العلاقات الثنائية.
-في نوفمبر2024، اعتقلت السلطات الجزائرية
الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال بتهم تتعلق بتصريحات اعتُبرت مساسًا بوحدة التراب
الجزائري. وقد أثار اعتقاله انتقادات من شخصيات سياسية وأدبية عالمية، وزاد من توتر
العلاقات الدبلوماسية.
واتهمت
فرنسا الجزائر برفض قبول إعادة مواطنيها الخاضعين للترحيل من فرنسا. وبلغت هذه القضية
ذروتها في أعقاب هجوم بسكين في ميلوز نفذه مواطن جزائري واجه عدة محاولات ترحيل فاشلة.
ردًا على ذلك، هدد رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو بإعادة تقييم اتفاقية الهجرة
الثنائية لعام 1968، التي تمنح امتيازات معينة للمواطنين الجزائريين في فرنسا، ما لم
تمتثل الجزائر لطلبات الترحيل.
كما تزعم فرنسا
أن الجزائر تُهمّش الشركات الفرنسية في العقود العامة، وتُحوّل تركيزها التعليمي من
الفرنسية إلى الإنجليزية، مما يُشير إلى ابتعادها عن التأثير الثقافي الفرنسي.
تعكس كل هذه التطورات
قضايا أعمق، بما في ذلك الحقبة الاستعمارية المُستمرة، وتباين المواقف بشأن النزاعات
الإقليمية مثل نزاع الصحراء الغربية، والخلافات حول سياسات الهجرة. وقد أدى تضافر هذه
العوامل إلى أزمة دبلوماسية متعددة الجوانب، تُشكّل تحديًا لمتانة العلاقات الفرنسية
الجزائرية.
في المقابل، شهدت علاقة
فرنسا مع المغرب تحسنًا هاما للغاية، اتسم بالتعاون الاستراتيجي والمصالح الاقتصادية
المتبادلة. وقد جسّد هذا التقارب زيارة الدولة التي قام بها الرئيس ماكرون إلى المغرب
في أكتوبر 2024، والتي اقترح خلالها "إطارًا استراتيجيًا جديدًا" يشمل التحول
في مجال الطاقة، وتطوير البنية التحتية، والتعليم، والتكنولوجيا الرقمية.
إن دعم فرنسا لخطة
الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية يجعلها منسجمة مع دول أخرى مثل الولايات المتحدة
وإسبانيا وإسرائيل ..إلخ وقد لعب هذا الدعم دورًا محوريًا في تعزيز العلاقات الثنائية،
إذ يعتبر المغرب الصحراء الغربية جزءًا لا يتجزأ من أراضيه.
ووقّع البلدان اتفاقيات
تزيد قيمتها الإجمالية عن 10 مليارات يورو، تركز على مشاريع الطاقة المتجددة، وتطوير
البنية التحتية، والنقل. والجدير بالذكر أن شركات فرنسية مثل توتال إنرجيز وألستوم
تستثمر في إنتاج الهيدروجين الأخضر وشبكات السكك الحديدية عالية السرعة في المغرب،
مما يعكس شراكة اقتصادية متنامية.
من جانب آخر تواصل
فرنسا والمغرب تعزيز الروابط الثقافية، من خلال مبادرات مثل إنشاء مراكز ثقافية فرنسية
في المدن المغربية وخصوصا بمدينتي العيوم والداخلة والتعاون في مجال التعليم العالي،
مما يعزز الروابط التاريخية والثقافية العريقة بين البلدين.
إن هذه الشراكة المتطورة
تبين كيف يُمكن للمصالح الاقتصادية المشتركة والمواقف الجيوسياسية المتوافقة أن تُعزز
العلاقات الثنائية الوثيقة، حتى في ظلّ ديناميكيات إقليمية مُعقّدة.
إن الوضع الراهن لعلاقات
فرنسا مع الجزائر والمغرب يبرز الأثرَ المُستمرّ للإرث التاريخي وتعقيدات الجغرافيا
السياسية المعاصرة في شمال أفريقيا. وبينما تُواجه فرنسا والجزائر أزمةً دبلوماسيةً
مُتفاقمةً تُغذّيها المظالم التاريخية، ونزاعات الهجرة، والسياسات الإقليمية المُتضاربة،
تُوظّف فرنسا والمغرب المصالح الاستراتيجية المُشتركة لبناء شراكة أوثق. تُبرز هذه
المسارات المتباينة الطبيعة الدقيقة والديناميكية للعلاقات الدولية في المغرب العربي،
حيث يرتبط التاريخ والسياسة والاقتصاد ارتباطًا وثيقًا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق